الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً }

عطف على جملةلا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } النساء 19، والمناسبة أنّ من جملة أحوال إرثهم النساء كرها، أن يكون ابن الميّت أولى بزوجة أبيه، إذا لم تكن أمَّهُ، فنهوا عن هذه الصورة نهياً خاصّاً مغلّظاً، وتُخلّص منه إلى إحصاء المحرّمات. و { ما نَكح } بمعنى الذي نكح مراد به الجنس، فلذلك حسن وقع { ما } عوض مَن لأنّ مَن تكثير في الموصول المعلوم، على أنّ البيان بقوله { من النساء } سوّى بين ما ــــ ومن فرجحت مَا لخفّتها، والبيان أيضاً يعيّن أن تكون ما موصولة. وعدل عن أن يقال لا تنكحوا نساء آبائكم ليدلّ بلفظ نكح على أنّ عقد الأب على المرأة كاف في حرمة تزوّج ابنه إياها. وذكر { من النساء } بيان لكون ما موصولة. والنهي يتعلّق بالمستقبل، والفعل المضارع مع النهي مدلوله إيجاد الحدث في المستقبل، وهذا المعنى يفيد النهي عن الاستمرار على نكاحهنّ إذا كان قد حصل قبل ورود النهي. والنكاح حقيقة في العقد شرعا بين الرجل والمرأة على المعاشرة والاستمتاع بالمعنى الصحيح شرعاً، وتقدّم أنّه حقيقة في هذا المعنى دون الوطء عند تفسير قوله تعالىفإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } في سورة البقرة 230، فحرام على الرجل أن يتزوَّج امرأةً عقَد أبوه عليها عقد نكاح صحيح، ولو لم يدخل بها، وأمّا إطلاق النكاح على الوطء بعقد فقد حمل لفظَ النكاح عليه بعضُ العلماء، وزعموا أنَّ قوله تعالى { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } أُطلِق فيه النكاح على الوطء لأنّها لا يُحلّها لمطلّقها ثلاثاً مجرّد العقد أي من غير حاجة إلى الاستعانة ببيان السنّة للمقصود من قوله { تنكح } وقد بيّنت ردّ ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره }. وأما الوَطْءُ الحرام من زنى فكونه من معاني النكاح في لغة العرب دعوى واهية. وقد اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه. فالذي ذهب إليه مالك في «الموطأ»، والشافعي أنّ الزنى لا ينشر الحرمة، وهذا الذي حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في «الرسالة»، ويُروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول الزهري، وربيعة، والليث. وقال أبو حنيفة، وابن الماجشون من أصحاب مالك الزنى ينشر الحرمة. قال ابن الماجشون مات مالك على هذا. وهو قول الأوزاعي والثوري. وقال ابن الموّاز هُو مكروه، ووقع في المدوّنة يفارقها فحمله الأكثر على الوجوب. وتأوّله بعضهم على الكراهة. وهذه المسألة جرت فيها مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن أشار إليها الجصّاص في أحكامه، والفخرُ في مفاتيح الغيب، وهي طويلة.

السابقالتالي
2