الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً }

مناسبة عطف الأمر على ماقبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله. وشيء هذا شأنه حقيق بأن تُراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك. وهذا ممَّا أشار إليه قوله تعالىوبث منهما رجالاً كثيراً ونساء... } النساء 1. والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقّاً له، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالىإنا أعطيناك الكوثر } الكوثر 1 وفي الحديث " رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هَلَكَتِه في الحقّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ". واليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يَتَائِم، فوقع فيه قلب مَكَانِيّ فقالوا يَتَامِىءُ ثم خفّفوا الهمزة فصارت ألفاً وحرّكت الميم بالفتح، وإذا جمع به يتيم فهو إمّا جَمْع الجمع بأن جمع أوّلاً على يَتْمَى، كما قالوا أسير وأسْرى، ثم جمع على يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة، أو جمع فعيل على فعائل لكونه صار اسماً مثل أفيل وأفائل، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفاً. وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي
أأطْلالَ حُسْن في البِراق اليَتَائِم سَلام على أطلالِكُنّ القَدَائِم   
واشتقاق اليتيم من الإنفراد، ومنه الدرّة اليتيمة أي المنفردة بالحسن، وفعله من باب ضرب وهو قاصر، وأطلقه العرب على من فُقد أبوه في حال صغره كأنّه بقي منفرداً لا يجد من يدفع عنه، ولم يعتدّ العرب بفقد الأمّ في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة، ولكنّه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه. وقد ظهر ممّا راعَوه في الاشتقاق أنّ الذي يبلغ مبلغ الرجال لا يستحقّ أن يسمّى يتيماً إذ قد بلغ مبلغ الدفع عن نفسه، وذلك هو إطلاق الشريعة لا سم اليتيم، والأصل عدم النقل. وقيل هو في اللغة من فُقد أبوه، ولو كان كبيراً، أو كان صغيراً وكَبر، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحاً. وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغُلب في ضمير التذكير في قوله { أموالهم }. وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقاً عليه اسم اليتيم، إذ اليتيم خاصّ بمن لم يبلغ، وهو حينئذ غير صالح للتصرّف في ماله، فتعيّن تأويل الآية إمّا بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم، فلنا أن نؤوّل { آتوا } بغير معنى ادفعوا. وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنّه قال نزلت هذه الآية في الذين لا يُورّثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية، فيكون { آتوا } بمعنى عيّنوا لهم حقوقهم، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام، لا تأكيد بعضها لبعض، أو تقييد بعضها لبعض.

السابقالتالي
2 3