الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }

استئناف واقع موقع تحقيق جملةله ما في السماوات وما في الأرض } النساء 171 أو موقع الاستدلال على ما تضمّنته جملةسبحانه أن يكون له ولد } النساء 171. والاستنكاف التكبّر والامتناع بأنفة، فهو أشد من الاستكبار، ونفي استنكاف المسيح إمّا إخبار عن اعتراف عيسى بأنّه عبد الله، وإمّا احتجاج على النّصارى بما يوجد في أناجيلهم. قال الله تعالى حكاية عنهقال إنّي عبد الله آتاني الكتاب } مريم 30 إلخ. وفي نصوص الإنجيل كثير ممّا يدلّ على أنّ المسيح عبد الله وأنّ الله إلهُه وربّه، كما في مجادلته مع إبليس، فقد قال له المسيح «للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد». وعُدل عن طريق الإضافة في قوله { عبداً لِلّه } فأظهر الحرف الّذي تقدّر الإضافة عليه لأنّ التنكير هنا أظهر في العبودية، أي عبداً من جملة العبيد، ولو قال عبدَ اللّهِ لأوهمت الإضافة أنّه العبد الخِصّيص، أو أنّ ذلك علَم له. وأمّا ما حكى الله عن عيسى ـــ عليه السلام ـــ في قولهقال إنّي عبد الله آتاني الكتاب } مريم 30 فلأنّه لم يكن في مقام خطاب من ادّعوا له الإلهية. وعطف الملائكة على المسيح مع أنّه لم يتقدّم ذِكْر لمزاعم المشركين بأنّ الملائكة بنات الله حتّى يتعرّض لردّ ذلك، إدماج لقصد استقصاء كلّ من ادعيت له بنوة الله، ليشمله الخبر بنفي استنكافه عن أن يكون عبداً لله، إذ قد تقدّم قبله قولهسبحانه أن يكون له ولد } النساء 171، وقد قالت العرب إنّ الملائكة بنات الله من نساء الجنّ، ولأنَّه قد تقدّم أيضاً قولهله ما في السماوات وما في الأرض } النساء 171، ومِنْ أفضل ما في السماوات الملائكة، فذكروا هنا للدلالة على اعترافهم بالعبوديّة. وإن جعلتَ قوله { لن يستنكف المسيح } استدلالاً على ما تضمّنه قولهسبحانَه أن يكون له ولد } النساء 171 كان عطف { ولا الملائكة المقرّبون } محتمِلاً للتتميم كقولهالرحمٰن الرحيم } الفاتحة 3 فلا دلالة فيه على تفضيل الملائكة على المسيح، ولا على العكس ومحتملاً للترقّي إلى ما هو الأولى بعكس الحكم في أوهام المخاطبين، وإلى هذا الأخير مال صاحب «الكشّاف» ومثله بقوله تعالىولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حّتى تتّبع ملّتهم } البقرة 120 وجعل، الآية دليلاً على أنّ الملائكة أفضل من المسيح، وهو قول المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وزعم أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وهو تضييق لواسع، فإنّ الكلام محتمل لوجوه، كما علمت، فلا ينهض به الاستدلال. واعلم أنّ تفضيل الأنبياء على الملائكة مطلقاً هو قول جمهور أهل السنّة، وتفضيل الملائكة عليهم قول جمهور المعتزلة والبَاقِلاّني والحليمي من أهل السنّة، وقال قوم بالتفصيل في التفضيل، ونسب إلى بعض الماتريدية، ولم يضبط ذلك التفصيل، والمسألة اجتهادية، ولا طائل وراء الخوض فيها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في تفاضل الأنبياء، فما ظنّك بالخوض في التفاضل بين الأنبياء وبين مخلوقات عالم آخر لا صلة لنا به.

السابقالتالي
2