الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } * { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } * { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }

عُطف { وبكفرهم } مرّة ثانية على قولهفبما نقضهم } النساء 155 ولم يُستغن عنه بقولهوكفرِهم بآيات الله } النساء 155 وأعيد مع ذلك حرف الجرّ الذي يغني عنه حرفُ العطف قصداً للتأكيد، واعتبر العطف لأجل بُعْد ما بيّن اللفظين، ولأنَّه في مقام التهويل لأمر الكفر، فالمتكلّم يذكره ويُعيده يتثبّت ويُرى أنّه لا ريبة في إناطة الحكم به، ونظير هذا التكرير قول لبيد
فتَنَازَعَا سَبِطاً يَطِيرُ ظلالُه كدُخان مُشْعَلَة يُشَبُّ ضِرامُها مَشْمُولة غُلِثَتْ بنابت عرفج كَدُخَان نار سَاطِع أسْنَامُها   
فأعاد التشبيه بقوله كدُخان نَار ليحقّق معنى التشبيه الأوّل. وفي «الكشاف» «تكرّر الكفر منهم لأنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد ـــ صلوات الله عليهم ـــ فعطف بعض كفرهم على بعض»، أي فالكفر الثاني اعتبر مخالفاً للذي قبله باعتبار عطف قوله { وقولهم على مريم بهتاناً }. ونظيره قول عويف القوافي
اللؤم أكرمُ من وَبْر ووالدِه واللؤمُ أكرم من وَبْرٍ وما ولدا   
إذْ عطف قوله واللؤم أكرم من وبر باعتبار أنّ الثاني قد عطف عليه قولُه وما ولدا. والبهتان مصدر بَهَتَه إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقّبه ولا يجد له جوابا، والذي يتعمّد ذلك بَهُوت، وجمعه بُهُت وبُهْت. وقد زيّن اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم ـــ عليها السلام ـــ. أمّا قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، فَمحلّ المؤاخذة عليهم منه هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين. والمسيح كان لَقباً لعيسى ـــ عليه السلام ـــ لقَّبه به اليهود تهكّماً عليه لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى المَلِك، كما تقدّم في قوله تعالىاسمه المسيح عيسى ابن مريم } في سورة آل عمران 45، وهو لقب قصدوا منه التهكّم، فصار لقباً له بينهم. وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيماً له. ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد اسم مذمَّم، قالت امرأة أبي لهب مذمَّماً عصينا، وأمره أبينا. فقال النبي ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم، يشتمون ويلعنون مذمّماً وأنا محمد. وقوله { رسول الله } إن كان من الحكاية فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك، فيكون نصبُ { رسول الله } على المدح، وإن كان من المحكي فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم، كقول المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلميَا أيّها الذي نُزّل عَلَيْهِ الذكر إنَّكَ لمجْنون } الحجر 6 وقول أهل مدين لشعيبأصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنَّك لأنْتَ الحليمُ الرشيد } هود 87 فيكون نصب «رسول الله» على النعت للمسيح. وقوله { وما قتلوه } الخ الظاهر أنّ الواو فيه للحال، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه، وليس خبراً عن نفي القتل لأنَّه لو كان خبراً لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويَّة، ولكنَّه لمّا كان حالاً من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم، على أنّه يجوز كونه خبراً معطوفاً على الجمل المخبر بها عنهم، ويكون تجريده من المؤكّدات إمَّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون، وإمَّا لاعتبار هذا الخبر غنيّاً عن التأكيد، فيكون ترك التأكيد تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر، وإمّا لكونه لم يُتلقّ إلاّ من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد.

السابقالتالي
2 3 4