الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

انتقال من الأمر بالعدل في أحوال معيّنة من معاملات اليتامى والنساء إلى الأمر بالعدل الذي يعمّ الأحوال كلّها، وما يقارنه من الشهادة الصادقة، فإنّ العدل في الحكم وأداء الشهادة بالحقّ هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عن ذلك ولو قيد أنملة يَجرّ إلى فساد متسلسل. وصيغة { قوّامين } دالّة على الكثرة المراد لازمها، وهو عدم الإخلال بهذا القيام في حال من الأحوال. والقِسط العدل، وقد تقدّم عند قوله تعالىقائماً بالقسط } في سورة آل عمران 18. وعدل عن لفظ العدل إلى كلمة القسط لأنّ القسط كلمة معرّبَة أدخلت في كلام العرب لدلالتها في اللغة المنقولة منها على العدل في الحُكم، وأمّا لفظ العدل فأعمّ من ذلك، ويدلّ لذلك تعقيبه بقوله { شُهداء لله } فإنّ الشهادة من علائق القضاء والحكمِ. و { لله } ظرف مستقرّ حال من ضمير { شهداء } أي لأجل الله، وليست لام تعدية { شهداء } إلى مفعوله، ولم يذكر تعلّق المشهود له بمتعلَّقه وهو وصف { شهداء } لإشعار الوصف بتعيينه، أي المشهود له بحقّ. وقد جمعت الآية أصليَ التحاكم، وهما القضاء والشهادة. وجملة { ولو على أنفسكم } حالية، ولو فيها وصلية، وقد مضى القول في تحقيق موقع لو الوصلية عند قوله تعالىفلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران 91. ويتعلّق { على أنفسكم } بكلَ من { قوّامين } و { شُهداء } ليشمل القضاء والشهادة. والأنفس جمع نفس وأصلها أن تطلق على الذات، ويطلقها العرب أيضاً على صميم القبيلة، فيقولون هو من بني فلان من أنفسهم. فيجوز أن يكون { أنفسكم } هنا بالمعنى المستعمل به غالباً، أي قوموا بالعدل على أنفسكم، واشهدوا لله على أنفسكم، أي قضاء غالباً لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم، لأنّ حرف على مؤذن بأنّ متعلّقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضرّ وكراهة للقاضي والشاهد، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدّة والأذى، لأنّ أشقّ شيء على المرء ما يناله من أذى وضرّ في ذاته، ثمّ ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأنّ أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرّاً ومشقّة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه. ويجوز أن يراد ولو على قيبلتكم أو والديكم وقرابتكم. وموقع المبالغة المستفادة من لو الوصلية أنّه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه، ويرون ذلك من إباء الضيم، ويرون ذلك حقّاً عليهم، ويعدّون التقصير في ذلك مسبّة وعاراً يقضي منه العجب. قال مرّة بن عداء الفقسي
رأيت مواليّ الآلَى يخذلونَني على حدثان الدهر إذ يتقلب   
ويعدّون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية، حتّى يقولون في الدعاء فذاك أبي وأمي، فكانت الآية تبطل هذه الحميّة وتبعث المسلمين على الانتصار للحقّ والدفاع عن المظلوم.

السابقالتالي
2 3