الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } * { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } * { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً }

جملة { ولله ما في السماوات وما في الأرض } معترضة بين الجمل التي قبلها المتضمنّة التحريض على التقوى والإحسان وإصلاح الأعمال من قولهوإن تحسنوا وتتقّوا } النساء 128 وقولهوإن تصلحوا وتتّقوا } النساء 129 وبين جملة { ولقد وصينا } الآية. فهذه الجملة تضمّنت تذييلات لتلك الجمل السابقة، وهي مع ذلك تمهيد لما سيذكر بعدها من قوله { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب } الخ لأنها دليل لوجوب تقوى الله. والمناسبة بين هذه الجملة والتي سبقتها وهي جملةيغن الله كُلاَ من سعته } النساء 130 أنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على أن يغني كلّ أحد من سعته. وهذا تمجيد لله تعالى، وتذكير بأنّه ربّ العالمين، وكناية عن عظيم سلطانه واستحقاقه للتقوى. وجملة { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } عطف على جملةإن الله لا يغفر أن يشرك به } النساء 116. وجُعل الأمر بالتقوى وصيةً لأنّ الوصية قول فيه أمرٌ بشيء نافع جامع لخير كثير، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول لأنّها يقصد منها وعي السامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله. والتقوى تجمع الخيرات، لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي، ولذلك قالوا ما تكرّر لفظ في القرآن ما تكرّر لفظ التقوى، يعنون غير الأعلام، كاسم الجلالة. وفي الحديث عن العرباض بن سارية وَعَظَنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنَّهَا موعظة مُوَدّعٍ فأوْصِنا، قال " أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والسمع والطاعة " فذكْرُ التقوى في { أن اتّقوا الله } الخ تفسير لجملة { وصيّنا } ، فأنْ فيه تفسيرية. والإخبارْ بأنّ الله أوصى الذين أوتوا الكتاب من قبل بالتقوى مقصود منه إلْهاب همم المسلمين للتهمّم بتقوى الله لئلاّ تفضلهم الأمم الذين من قبلهم من أهل الكتاب، فإنّ للائتساء أثراً بالغاً في النفوس، كما قال تعالىيا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } البقرة 183، والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى، فالتعريف في الكتاب تعريف الجنس فيصدق بالمتعدّد. والتقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله ولذلك قوبلت بجملة { وإن تكفروا فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض }. وبيَّن بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس، ولكنّها لصلاح أنفسهم، كما قالإن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر } الزمر 7. فقوله { فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض } كناية عن عدم التضرّر بعصيَان من يعصونه، ولذلك جعلها جواباً للشرط، إذ التقدير فإنّه غنيّ عنكم. وتأيّد ذلك القصد بتذييلها بقوله { وكان الله غنياً حميداً } أي غنيّاً عن طاعتكم، محموداً لذاته، سواء حمده الحامدون وأطاعوه، أم كفروا وعصوه.

السابقالتالي
2 3