الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } * { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً }

الأظهر أنّ الواو للحال من ضميريدخلون الجنّة } النساء 124 الذي ما صْدَقُه المؤمنون الصالحون، فلما ذكر ثواب المؤمنين أعقبه بتفضيل دينهم. والاستفهامُ إنكاري. وانتصب { دينا } على التمييز. وإسلام الوجه كناية عن تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية، وهو أحسن الكنايات، لأنّ الوجه أشرف الأعضاء، وفيه ما كان به الإنسان إنساناً، وفي القرآنفقُل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعني } آل عمران 20. والعرب تذكر أشياء من هذا القبيل كقولهلنسفعن بالناصية } العلق 15، ويقولون أخذ بساقه، أي تمكن منه، وكأنّه تمثيل لإمساك الرعاة الأنعام. وفي الحديث " الطلاق لمن أخذ بالساق " ويقولون ألقى إليه القياد، وألقى إليه الزمام، وقال زيد بن عمرو بن نفيل
يَقُولُ أنفي لكَ عَانٍ رَاغِم   
ويقولون يدي رهن لفلان. وأراد بإسلام الوجه الاعتراف بوجود الله ووحدانيته. وقد تقدّم ما فيه بيان لهذا عنا، قوله تعالىإنّ الدين عند الله الإسلام } آل عمران 19 وقولهوأوصى بها إبراهيم بنيه } البقرة 132. وجملة «وهو محسن» حال قصد منها اتّصافه بالإحسان حين إسلامه وجهَه لله، أي خلع الشرك قاصداً الإحسان، أي راغباً في الإسلام لِمَا رأى فيه من الدعوة إلى الإحسان. ومعنى { واتبع ملة إبراهيم حنيفاً } أنه اتّبع شريعة الإسلام التي هي على أُسس ملّة إبراهيم. فهذه ثلاثة أوصاف بها يكمل معنى الدخول في الإسلام، ولعلّها هي الإيمان، والإحسان، والإسلام. ولك أن تجعل معنى { أسلم وجهه لله } أنّه دخل في الإسلام، وأنّ قوله { وهو محسن } مخلص راغب في الخير، وأنّ اتّباع ملّة إبراهيم عني به التوحيد. وتقدّم أنّ { حنيفاً } معناه مائلاً عن الشرك أو متعبّداً. وإذا جعلت معنى قوله { وهو محسن } أي عامل الصالحات كان قوله { واتبع ملة إبراهيم حنيفاً } بمنزلة عطف المرادف وهو بعيد. وقوله { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } عطف ثناء إبراهيم على مدح من اتّبع دينه زيادة تنويه بدين إبراهيم، فأخبر أنّ الله اتّخذ إبراهيم خليلاً. والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه، مشتقّ من الخِلال، وهو النواحي المتخلّلة للمكانفترى الودق يخرج من خلاله } النور 43فجّرنا خلالهما نهرا } الكهف 33. هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل. ويقال خِلّ وخُلّ ــــ بكسر الخاء وضمّها ــــ ومؤنّثهُ خُلّة ــــ بضمّ الخاء ــــ، ولا يقال ــــ بكسر الخاء ــــ، قال كعب
أكرم بها خُلَّةً لو أنَّها صدقت   
وجمعها خلائل. وتطلق الخلّة ــــ بضمّ الخاء ــــ على الصحبة الخالصةلا بيع فيه ولا خُلّة ولا شفاعة } البقرة 254، وجمعها خِلالمِنْ قَبْلِ أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال } إبراهيم 31. ومعنى اتُخاذ الله إبراهيم خليلاً شدّة رِضَى اللَّهِ عنه، إذ قد علم كلّ أحد أنّ الخلّة الحقيقية تستحِيل على الله فأريد لوازمها وهي الرضى، واستجابة الدعوة، وذكره بخير، ونحو ذلك. وجملة { ولله ما في السموات وما في الأرض } الخ تذييل جعل كالاحتراس، على أنّ المراد بالخليل لازم معنى الخلّة، وليست هي كخلّة الناس مقتضية المساواة أو التفضيل، فالمراد منها الكناية عن عبودية إبراهيم في جملة { ما في السموات وما في الأرض }. والمحيط العليم.