الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }

لم تَخْلُ الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة، ولا الأحوال التي حذّرت منها، من تناج وتحاوُر، سِرّا وجهراً، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها، لذلك كان المقام حقيقاً بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه، لأنّ في ذلك تعليماً وتربية وتشريعاً، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين، وكان التناجي فاشياً لمقاصد مختلفة، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا، أي خوفاً، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهلِ الكتاب، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحوألَمْ تَرَ إلى الذين نُهوا عن النجوى } المجادلة 8 الآيات، وقولهإذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } الإسراء 47 وقولهوإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم } البقرة 14، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضاً، فقال { لا خير في كثير من نجواهم }. فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لإفادة حكم النجوى، والمناسبةُ قد تبيّنت. والنجوى مصدر، هي المسَارّة في الحديث، وهي مشتقّة من النجو، وهو المكان المستتر الذي المفضِي إليه ينجو من طالبه، ويطلق النجوى على المناجين، وفي القرآن { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } ، وهو ــــ وصف بالمصدر ــــ والآية تحتمل المعنيين. والضمير الذي أضيف إليه { نجوى } ضمير جماعة الناس كلّهم، نظير قوله تعالى { ألا إنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه } إلى قولهوما يُعلنون } في سورة هود 5، وليس عائداً إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قولهيستخفون من الناس } النساء 108 إلى هنا لأنّ المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلاّ فيما يختصّ بقضيتهم، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله { إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس }. وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره، فلا يصير إلى المناجاة إلاّ في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث. فمَن يناجي في غير تلك الأحوال رُمي بأنّ شأنه ذميم، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره، كما قال صالح بن عبد القدوس
الستر دون الفاحشات ولا يَغشاك دون الخير مِنْ ستْرِ   
وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرّة، لأنّ التناجي كان من شأن المنافقين فقالألم تر إلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهو عنه } المجادلة 8 وقالإنّما النجوى من الشيطان ليُحزن الذين آمنوا } المجادلة 10. وقد ظهر من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون ثالث أنّ النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين، فعلمنا من ذلك أنّها لا تغلب إلاّ على أهل الريَب والشبهات، بحيث لا تصير دأباً إلاّ لأولئك، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى.

السابقالتالي
2