الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ }

{ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } هذا مثال لتقلب المشركين بين إشراكهم مع الله غيره في العبادة، وبين إظهار احتياجهم إليه، فذلك عنوان على مبلغ كفرهم وأقصاه. والجملة معطوفة على جملةذٰلِكُم الله رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ } الزمر 6 الآية لاشتراك الجملتين في الدلالة على أن الله منفرد بالتصرف مستوجب للشكر، وعلى أن الكفر به قبيح، وتَتَضمن الاستدلال على وحدانية إلٰهية بدليل من أحوال المشركين به فإنهم إذا مسهم الضر لجأوا إليه وحده، وإذا أصابتهم نعمة أعرضوا عن شكره وجعلوا له شركاء.فالتعريف في { الإنْسَانَ } تعريف الجنس ولكن عمومه هنا عموم عرفي لفريق من الإِنسان وهم أهل الشرك خاصة لأن قوله { وجَعَلَ لله أندَاداً } لا يتفق مع حال المؤمنين.والقول بأن المراد انسان معيّن وأنه عتبة بن ربيعة، أو أبو جهل، خروج عن مهيع الكلام، وإنما هذان وأمثالهما من جملة هذا الجنس. وذكر الإِنسان إظهار في مقام الإِضمار لأن المقصود به المخاطبون بقولهخلقكم من نفس واحدة } الزمر 6 إلى قولهفَيُنَبِئكم بما كُنتمُ تَعْمَلُون } الزمر 7، فكان مقتضى الظاهر أن يقال وإذا مسكم الضر دعوتم ربكم الخ، فعدل إلى الإِظهار لما في معنى الإِنسان من مراعاة ما في الإِنسانية من التقلب والاضطراب إلا من عصمه الله بالتوفيق كقوله تعالىويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } مريم 66، وقولهأيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } القيامة 3 وغير ذلك ولأن في اسم الإِنسان مناسبة مع النسيان الآتي في قوله { نسي ما كان يدعو إليه من قبل }. وتقدم نظير لهذه الآية في قولهوإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } في سورة الروم 33.والتخويل الإِعطاء والتمليك دون قصد عوض. وعينُه واو لا محالة. وهو مشتق من الخَوَل بفتحتين وهو اسم للعبيد والخدم، ولا التفات إلى فعل خال بمعنى افتخر، فتلك مادة أخرى غير ما اشتق منه فعل خَوَّل.والنسيان ذهول الحافظة عن الأمر المعلوم سابقاً.ومَا صْدَق { ما } في قوله { مَا كَانَ يَدْعُوا إلَيْهِ مِن قَبْلُ } هو الضر، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه، أي إلى كشفه عنه، ومفعول { يَدْعُوا } محذوف دل عليه قوله { دَعَا رَبَّهُ } ، وضمير { إلَيْهِ } عائد إلى { ما } ، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه، أي إلى كشفه. ويجوز أن يكون { ما } صادقاً على الدعاء كما تدل عليه الصلة ويكون الضمير المجرور بــــ إلى عائداً إلى { رَبَّهُ } ، أي نسي الدعاء، وضُمّن الدعاء معنى الابتهال والتضرع فعُدي بحرف إلى. وعائد الصلة محذوف دل عليه فعل الصلة تفادياً من تكرر الضمائر.

السابقالتالي
2