الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } * { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }

هذا استئناف ابتدائي تمهيد لقولهقُل أفغير الله تأمروني أعبُد } الزمر 64 في ذكر تمسك الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله بالتوحيد ونبذِ الشرك والبراءةِ منه والتصلبِ في مقاومته والتصميمِ على قطع دابره، وجُعلت الجمل الثلاث من قوله الله خالق كل شيء } إلى قوله { السماوات والأرض } مقدمات تؤيد ما يجيء بعدها من قولهقُل أفغير الله تأمروني أعبُد } الزمر 64.وقد اشتمل هذا الاستئناف ومعطوفاته على ثلاث جمل وجملة رابعةفالجملة الأولى { الله خالق كل شيء } وهذه الجملة أَدْخَلت كل موجود في أنه مخلوق لله تعالى، فهو وليّ التصرف فيه لا يخرج من ذلك إلاّ ذاتُ الله تعالى وصفاته فهي مخصوصة من هذا العموم بدليل العقل وهو أنه خالق كل شيء فلو كان خالقَ نفسه أو صفاتِه لزم توقف الشيء على ما يتوقف هُو عليه وهذا ما يسمى بالدَّوْر في الحكمة، واستحالتُه عقلية، فخُص هذا العموم العقل. والمقصود من هذا إثبات حقيقة، والزامُ الناس بتوحيده لأنه خالقهم، وليس في هذا قصد ثناء ولا تعاظم، والمقصود من هذه المقدمة تذكير الناس بأنهم جميعاً هم وما معهم عبيد لله وحده ليس لغيره منّة عليهم بالإِيجاد.الجملة الثانية { وهو على كل شيء وكيل } وجيء بها معطوفة لأن مدلولها مغاير لمدلول التي قبلها. والوكيلُ المتصرف في شيء بدون تعقب ولما لم يعلّق بذلك الوصف شيءٌ علم أنه موكول إليه جِنس التصرف وحقيقتُه التي تعم جميع أفراد ما يتصرف فيه، فعم تصرفه أحوالَ جميع الموجودات من تقدير الأعمال والآجال والحركاتِ، وهذه المقدمة تقتضي الاحتياج إليه بالإِمداد فهم بعد أن أوجدهم لم يستغنوا عنه لَمحةً مّا.الجملة الثالثة { لَهُ مقَاليدُ السماواتِ والأرض } وجيء بها مفصولة لأنها تفيد بيان الجملة التي قبلها فإن الوكيل على شيء يكون هو المتصرف في العطاء والمنع.والمقاليد جمع إِقليد بكسر الهمزة وسكون القاف وهذا جمع على غير قياس، وإقليد قيل معرب عن الفارسية، وأصله كليد قيل من الرومية وأصله اقليدس وقيل كلمة يمانية وهو مما تقاربت فيه اللغات. وهي كناية عن حفظ ذخائرها، فذخائر الأرض عناصرها ومعادنها وكيفيات أجوائها وبحارها، وذخائرُ السماوات سَير كواكبها وتصرفات أرواحها في عوالمها وعوالمنا. وما لا يعلمه إلا الله تعالى. ولما كانت تلك العناصر والقُوى شديدة النفع للناس وكان الناس في حاجة إليها شبهت بنفائس المخزونات فصحّ أيضاً أن تكون المقاليد استعارة مكنية، وهي أيضاً استعارة مصرحة للأمر الإِلهي التكويني والتسخيري الذي يُفيض به على الناس من تلك الذخائر المدَّخَرة كقوله تعالىوإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } الحجر 21. وهذه المقدمة تشير إلى أن الله هو معطي ما يشاء لمن يشاء من خلقه، ومن أعظم ذلك النبوءة وهديُ الشريعة فإن جهل المشركين بذلك هو الذي جرَّأَهم على أن أنكروا اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة دونهم، واختصاص أتباعه بالهُدى فقالوا

السابقالتالي
2