الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ }

{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }.انتقال إلى الاستدلال بخلق الناس وهو الخلق العجيب. وأُدمج فيه الاستدلال بخلق أصلهم وهو نفس واحدة تشعب منها عدد عظيم وبخلق زوج آدم ليتقوّم ناموس التناسل. والجملة يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير الجلالة، ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً تكريراً للاستدال.والخطاب للمشركين بدليل قوله بعده { فأنَّى تُصرفونَ } ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب، ونكتته أنه لما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم بطريق الغيبة أقبَلَ على خطابهم ليُجمع في توجيه الاستدلال إليهم بين طريقي التعريض والتصريح. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة الأعراف، إلاّ أن في هذه الجملة عطف قوله { جعل منها زوجها } بحرف { ثم } الدال على التراخي الرتبي لأن مساقها الاستدلال على الوحدانية وإبطال الشريك بمراتبه، فكان خلق آدم دليلاً على عظيم قدرته تعالى وخلق زوجه من نفسه دليلاً آخر مستقل الدلالة على عظيم قدرته. فعطف بحرف { ثم } الدال في عطف الجمل على التراخي الرتبي إشارة إلى استقلال الجملة المعطوفة بها بالدلالة مثل الجملة المعطوفة هي عليها، فكان خلق زوج آدم منه أدلّ على عظيم القدرة من خلق الناس من تلك النفس الواحدة ومن زوجها لأنه خلق لم تجرِ به عادة فكان ذلك الخلق أجلب لعجب السامع من خلق الناس فجيء له بحرف التراخي المستعمل في تراخي المنزلة لا في تراخي الزمن لأن زمن خلق زوج آدم سابق على خلق الناس. فأما آية الأعراف فمساقها مساق الامتنان على الناس بنعمة الإِيجاد، فذُكر الأصلان للناس معطوفاً أحدهما على الآخر بحرف التشريك في الحكم الذي هو الكون أصلاً لخلق الناس.وقد تضمنت الآية ثلاث دلائل على عظم القدرة خلق الناس من ذكر وأنثى بالأصالة وخلق الذكر الأول بالإِدماج وخلق الأنثى بالأصالة أيضاً. { زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أزواج }.استدلال بما خلقه الله تعالى من الأنعام عطف على الاستدلال بخلق الإِنسان لأن المخاطبين بالقرآن يومئذٍ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلو الأمم يومئذ من الحاجة إلى الأنعام ولم تزل الحاجة إلى الأنعام حافّة بالبشر في قِوام حياتهم. وهذا اعتراض بين جملة { خلقَكم من نَفسسٍ واحدةٍ } وبين { يخلُقكم في بُطونِ أُمهاتِكُم } لمناسبة أزواج الأنعام لزوج النفس الواحدة.وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بما فيها من المنافع للناس لما دل عليه قوله { لَكُم } لأن في الأنعام مواد عظيمة لبقاء الإِنسان وهي التي في قوله تعالىوالأنعام خلقها لكم فيها دفء } النحل 5 إلى قولهإلا بشق الأنفس } النحل 7 وقولهومن أصوافها وأوبارها } الخ في سورة النحل80.والإِنزال نقل الجسم من علوّ إلى سُفل، ويطلق على تذليل الأمر الصعب كما يقال نزلوا على حكم فلان، لأن الأمر الصعب يتخيل صعب المنال كالمعتصم بقمم الجبال، قال خصَّاب بن المعلَّى من شعراء الحماسة

السابقالتالي
2 3 4