الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } * { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

{ أن تقول } تعليل للأوَامر في قولهوأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } الزمر 54واتبعوا أحسن ما أنزل } الزمر 55 على حذف لام التعليل مع أَنْ وهو كثير.وفيه حذف { لا } النافية بعد { أن } ، وهو شائع أيضاً كقوله تعالىوهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } الأنعام 155 - 157، وكقولهفلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } النساء 135. وعادة صاحب «الكشاف» تقدير كراهية أن تفعلوا كذا. وتقدير لا النافية أظهر لكثرة التصرف فيها في كلام العرب بالحذف والزيادة.والمعنى لئلا تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. وظاهر القول إنه القول جهرة وهو شأن الذي ضاق صَبْره عن إخفاء ندامته في نفسه فيصرخ بما حدَّث به نفسه فتكون هذه الندامة المصرح بها زائدة على التي أسرّها، ويجوز أن يكون قولاً باطناً في النفس. وتنكير { نَفْسٌ } للنوعية، أي أن يَقول صنف من النفوس وهي نفوس المشركين فهو كقوله تعالىعلمت نفس ما أحضرت } التكوير 14. وقول لبيد
أو يعتلق بعض النفوس حمامها   
يريد نفسه.وحرف يا في قوله { يا حسرتي } استعارة مكنية بتشبيه الحسرة بالعاقل الذي ينادي ليقبل، أي هذا وقتك فاحضري، والنداء من روادف المشبه به المحذوف، أي يا حسرتي احضري فأنا محتاج إليك، أي إلى التحسر، وشاع ذلك في كلامهم حتى صارت هذه الكلمة كالمثل لشدة التحسر.والحسرة الندامة الشديدة. والألفُ عوض عن ياء المتكلم.وقرأ أبو جعفر وحْده { يا حسرتاي } بالجمع بين ياء المتكلم والألف التي جُعلت عوضاً عن الياء في قولهم { يا حسرتي }. والأشهر عن أبي جعفر أن الياء التي بعد الألف مفتوحة. وتعدية الحسرة بحرف الاستعلاء كما هو غالبها للدلالة على تمكن التحسر من مدخول { على }. و { ما في ما فَرَّطتُ } صدرية، أي على تفريطي في جنب الله.والتفريط التضييع والتقصير، يقال فَرَّطَه. والأكثر أن يقال فرّط فيه. والجنب والجانب مترادفان، وهو ناحية الشيء ومكانه ومنهوالصاحبِ بالجنْب } النساء 36 أي الصاحب المجاور.وحرف في هنا يجوز أن يكون لتعدية فعل { فَرَّطتُ } فلا يكون للفعل مفعول ويكون المفرط فيه هو جنب الله، أي جهته ويكون الجنب مستعاراً للشأن والحقِّ، أي شأن الله وصفاته ووصاياه تشبيهاً لها بمكان السيد وحِماه إذا أُهمل حتى اعتُدي عليه أو أَقْفَرَ، كما قال سابق البربري
أما تتقين الله في جنب وامق له كبد حرَّى عليكِ تَقَطَّعُ   
أو تكون جملة { فَرَّطت في جَنب الله } تمثيلاً لحال النفس التي أُوقفت للحساب والعقاببِ بحال العبد الذي عهد إليه سيّده حراسةَ حماهُ ورعايةَ ماشيته فأهملها حتى رُعي الحِمى وهَلكت المواشي وأحضر للثقاف فيقول يا حسرتا على ما فرطت في جنْب سيدي.

السابقالتالي
2