الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }

أُطنبتْ آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطناباً يبلغ من نفوس سامعيها أيَّ مبلغ من الرعب والخوف، على رغْمِ تظاهرهم بقلة الاهتمام بها. وقد يبلغ بهم وقعها مبلغَ اليأس من سَعيٍ ينجيهم من وعيدها، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب. والكلام استئناف بياني لأن الزواجر السابقة تثير في نفوس المواجَهين بها خاطر التساؤل عن مسالك النجاة فتتلاحم فيها الخواطر الملَكية والخواطر الشيطانية إلى أن يُرسي التلاحم على انتصار إحدى الطائفتين، فكان في إنارة السبيل لها ما يسهل خطو الحائرين في ظلمات الشك ويرتفق بها ويواسيها بعد أن أثخنتها جروح التوبيخ والزجر والوعيد ويضمد تلك الجراحة، والحليمُ يزجُر ويلين، وتثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم خشيةَ أن يحيط غضب الله بالذين دعاهم إليه فأعرضوا، أو حببهم في الحق فأبغضوا، فلعله لا يَفتح لهم باب التوبة، ولا تقبل منهم بعد إعراضهم أوْبَة، ولاسيما بعد أن أمره بتفويض الأمر إلى حكمه، المشتَمِّ منه ترقبُ قطع الجدال وفصمِه، فكان أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأن يناديهم بهذه الدعوة تنفيساً عليه، وتفتيحاً لباب الأوْبة إليه، فهذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة { قُل } استئناف لبيان ما ترقَّبَه أفضلُ النبيئين صلى الله عليه وسلم أي بلغ عني هذا القول.وجملةُ { يٰعِبَادي } استئناف ابتدائي من خطاب الله لهم. وابتداء الخطاب بالنداء وعنوانِ العباد مؤذن بأن ما بعده إعداد للقبول وإطماع في النجاة.والخطاب بعنوان { يٰعِبَادي } مراد به المشركون ابتداءً بدليل قولهوأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب } الزمر 54 وقولهوإن كنت لمن السٰخرين } الزمر 56 وقولهبلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } الزمر 59. فهذا الخطاب جرى على غير الغالب في مثله في عادة القرآن عند ذكر { عبادي } بالإِضافة إلى ضمير المتكلم تعالى.وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس «أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قَتلوا وأَكثروا، وزنَوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرُنا أَن لما عملنا كفارة يعني وقد سمعوا آيات الوعيد لمن يعمل تلك الأعمال وإلا فمن أين علموا أن تلك الأعمال جرائم وهم في جاهلية فنزلوالذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ولا يزنون } الفرقان 68 يعني إلى قولهإلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } الفرقان 70 ونزل { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه }.وقد رويت أحاديث عدة في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزئيات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين وقد أشرنا إليها في ديباجة تفسير السورة.

السابقالتالي
2 3