الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ }

{ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى }.هذه الجملة بيان لجملةهو الله الواحد القهار } الزمر 4 فإن خلق هذه العوالم والتصرف فيها على شدتها وعظمتها يبين معنى الوحدانية ومعنى القهّارية، فتكون جملة { هو الله الواحد القهار } ذات اتصالين اتصالٍ بجملةلو أراد الله أن يتَّخِذَ ولداً } الزمر 4 كاتصال التذييل، واتصالٍ بجملة { خلق السماوات والأرض بالحق } اتصالَ التمهيد.وقد انتقل من الاستدلال باقتضاء حقيقة الإِلٰهية نفي الشريك إلى الاستدلال بخلق السماوات والأرض على أنه المنفرد بالخلق إذ لا يستطيع شركاؤهم خلق العوالم.والباء في { بالحقِّ } للملابسة، أي خلقها خلقاً ملابساً للحق وهو هنا ضد العبث، أي خلقهما خلقاً ملابساً للحكمة والصواب والنفع لا يشوب خلقهما عبث ولا اختلال قال تعالىوما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } الدخان 38 ــــ 39. وجملة { يُكَوّرُ الَّيْلَ } بيان ثان وهو كتعداد الجمل في مقام الاستدلال أو الامتنان. وأوثر المضارع في هذه الجملة للدلالة على تجدد ذلك وتكرره، أو لاستحضار حالة التكوير تبعاً لاستحضار آثارها فإن حالة تكوير الله الليل على النهار غير مشاهدة وإنما المشاهد أثرها وتجدد الأثر يدل على تجدد التأثير.والتكوير حقيقته اللف والليُّ، يقال كَوَّر العمامةَ على رأسه إذا لواها ولفَّها، ومثّلت به هنا هيئة غشيان الليل على النهار في جزء من سطح الأرض وعكسُ ذلك على التعاقب بهيئة كَوْر العمامة، إذ تغشى الليَّةُ الليَّةَ التي قبلها. وهو تمثيل بديع قابل للتجزئة بأن تشبه الأرض بالرأس، ويشبه تعاور الليل والنهار عليها بلف طيات العمامة، ومما يزيده إبداعاً إيثار مادة التكوير الذي هو معجزة علمية من معجزات القرآن المشار إليها في المقدمة الرابعة والموضحة في المقدمة العاشرة، فإن مادة التكوير جَائية من اسم الكُرة، وهي الجسم المستدير من جميع جهاته على التساوي، والأرض كروية الشكل في الواقع وذلك كان يجهله العرب وجمهور البشر يومئذٍ فأومأ القرآن إليه بوصف العَرضين اللذين يعتريان الأرض على التعاقب وهما النور والظلمة، أو الليل والنهار، إذ جعل تعاورهما تكويراً لأن عَرَض الكرة يكون كروياً تبعاً لذاتها، فلما كان سياق هذه الآية للاستدلال على الإِلٰهية الحقِّ بإنشاء السماوات والأرض اختير للاستدلال على ما يَتبع ذلك الإِنشاء من خلق العَرضين العظيمين للأرض مادةُ التكوير دون غيرها من نحو الغشيان الذي عبر به في قوله تعالىيغشي الليل النهار } في سورة الأعراف 54، لأن تلك الآية مسوقة للدلالة على سعة التصرف في المخلوقات لأن أولهاإن ربكم اللَّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } الأعراف 54 فكان تصوير ذلك بإغشاء الليل والنهار خاصة لأنه دل على قوة التمكن من تغييره أعراض مخلوقاته، ولذلك اقتصر على تغيير أعظم عَرَض وهو النور بتسليط الظلمة عليه، لتكون هاته الآية لمن يأتي من المسلمين الذين يطلعون على علم الهيئة فتكون معجزة عندهم.

السابقالتالي
2