الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

الفاء لتفريع هذا الكلام على قولهوإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } الزمر 45 الآية وما بينهما اعتراض مسلسل بعضه مع بعض للمناسبات.وتفريع ما بعد الفاء على ما ذكرناه تفريع وصف بعض من غرائب أحوالهم على بعض، وهل أغرب من فزعهم إلى الله وحْده بالدعاء إذا مسهم الضر وقد كانوا يشمئزّون من ذكر اسمه وحده فهذا تناقض من أفعالهم وتعكيس، فإنه تسببُ حديثٍ على حديثٍ وليس تسبباً على الوجود. وهذه النكتة هي الفارقة بين العطف بالفاء هنا وعطف نظيرها بالواو في قوله أول السورةوإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه } الزمر 8. والمقصود بالتفريع هو قوله { فإذا مَسَّ الإنسان ضُرٌ دعانا } ، وأما ما بعده فتتميم واستطراد.وقد تقدم القول في نظير صدر هذه الآية في قولهوإذا مسّ الإِنسان ضرّ دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي } الزمر 8 الآية. وأن المراد بالإِنسان كل مشرك فالتعريف تعريف الجنس، والمرادُ جماعةٌ من الناس وهم أهل الشرك فهو للاستغراق العرفي. والمخالفة بين الآيتين تفنن ولئلا تخلو إعادة الآية من فائدة زائدة كما هو عادة القرآن في القصص المكررة.وقوله { إنما أوتيته على علم } { إنَّمَا } فيه هي الكلمة المركبة من إنّ الكافة التي تصير كلمة تدل على الحصر بمنزلة مَا النافية التي بعدها إلاّ الاستثنائية. والمعنى ما أوتيت الذي أوتيتُه من نعمة إلا لعلم منيّ بطرق اكتسابه. وتركيز ضمير الغائب في قوله { أوتيته } عائد إلى { نِعْمَة } على تأويل حكاية مقالتهم بأنها صادرة منهم في حال حضور ما بين أيديهم من أنواع النعم فهو من عود الضمير إلى ذات مشاهدة، فالضمير بمنزلة اسم الإِشارة كقوله تعالىبل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم } الأحقاف 24.ومعنى قال { إنما أوتيته على علم } اعتقَد ذلك فجرى في أقواله إذ القولُ على وفق الاعتقاد. و { عَلى } للتعليل، أي لأجل عِلمٍ، أي بسبب علم. وخولف بين هذه الآية وبين آية سورة القصص 78 في قولهعلى علم عندي } فلم يذكر هنا عندي لأن المراد بالعلم هنا مجرد الفطْنة والتدبير، وأريد هنالك علم صَوغ الذهب والفضة والكيمياء التي اكتسب بها قارون من معرفة تدابيرها مالاً عظيماً، وهو علم خاص به، وأما مَا هنا فهو العلم الذي يوجد في جميع أهل الرأي والتدبير. والمراد العِلم بطرق الكسب ودفع الضرّ كمثل حِيَل النوتيّ في هول البحر. والمعنى أنه يقول ذلك إذا ذكَّره بنعمة الله عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم أو أحدُ المؤمنين، وبذلك يظهر موقع صيغة الحصر لأنه قصد قلب كلام من يقول له إن ذلك من رحمة الله به. و { بل } للإِضراب الإِبطالي وهو إبطال لزعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وتدبيرهم، أي بل إن الرحمة التي أوتوها إنما آتاهم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكرهم، أي هي دالّة على حالة فيهم تشبه حالة الاختبار لمقدار علمهم بالله وشكرهم إياه لأن الرحمة والنعمة بها أثر في المنع عليه إمّا شاكراً وإمّا كفوراً والله عالم بهم وغنيّ عن اختبارهم.

السابقالتالي
2