الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

يصلح هذا أن يكون مثَلاً لحال ضلال الضالين وهُدى المهتدين نشأ عن قولهفمن اهتدى فلنفسه } الزمر 41 إلى قولهوما أنت عليهم بوكيل } الزمر 41.والمعنى أن استمرار الضالّ على ضلاله قد يحصل بعدَه اهتداء وقد يوافيه أجله وهو في ضلاله فضرب المثل لذلك بنوم النائم قد تعقبه إفاقة وقد يموت النائم في نومه، وهذا تهوين على نفس النبي صلى الله عليه وسلم برجاء إيمان كثير ممن هم يومئذٍ في ضلال وشرك كما تَحقّقَ ذلك. فتكون الجملة تعليلاً للجملة قبلَها ولها اتصال بقوله { أفمن شرح الله صدره للإسلام } إلى قولهفي ضلال مبين } الزمر 22. ويجوز أن يكون انتقالاً إلى استدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف في الأحوال فإنه ذكر دليل التصرف بخلق الذوات ابتداءً من قولهخلق السماوات والأرض بالحق } الزمر 5 إلى قولهفي ظُلُمات ثَلاث } الزمر 6، ثم دليل التصرف بخلق أحوال ذواتٍ وإنشاءِ ذواتٍ من تلك الأحوال وذلك من قولهألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض } الزمر 21 إلى قولهلأُولى الألباب } الزمر 21 وأعقَبَ كل دليل بما يظهر فيه أثره من الموعظة والعبرة والزجر عن مخالفة مقتضاه، فانتقل هنا إلى الاستدلال بحالة عجيبة من أحوال أنفُس المخلوقات وهي حالة الموت وحالة النوم. وقد أنبأ عن الاستدلال قوله { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } ، فهذا دليل للناس من أنفسهم، قال تعالىوفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21 وقالضرب لكم مثلاً من أنفسكم } الروم 28، فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً للتدرج في الاستدلال ولها اتصال بجملة { خلق السماوات والأرض بالحق } وجملة { ألم تر أن الله أنزل } المتقدمتين، وعلى كلا الوجهين أفادت الآية إبراز حقيقتين عظيمتين من نواميس الحياتين النفسية والجسدية وتقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإِفادة تخصيصه بمضمون الخبر، أي الله يتوفّى لا غيره فهو قصر حقيقي لإِظهار فساد أَنْ أشركوا به آلهة لا تملك تصرفاً في أحوال الناس.والتوفِّي الإماتة، وسميت توفّياً لأن الله إذا أَمات أحداً فقد توفّاه أجلَه فالله المتوفِّي ومَلك الموت متوفًّ أيضاً لأنه مباشر التوفّي.والميت متوفى بصيغة المفعول، وشاع ذلك فصار التوفّي مرادفاً للإِماتة والوفاة مُرادفة للموت بقطع النظر عن كيفية تصريف ذلك واشتقاقه من مادة الوفاء.وتقدم في قوله تعالىوالذين يتوفون منكم } في سورة البقرة 234 وقولهقل يتوفاكم ملك الموت } في سورة السجدة 11. والأنفس جمع نَفْس، وهي الشخص والذات قال تعالى وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وتطلق على الروح الذي به الحياة والإِدراك.ومعنى التوفي يتعلق بالأنفس على كلا الإِطلاقين. والمعنى يتوفّى الناس الذين يموتون فإن الذي يوصف بالموت هو الذات لا الروح وأنَّ توفيها سَلب الأرواح عنها.

السابقالتالي
2 3