الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }

لما أبلغهم الله من الموعظة أقصى مَبلغ، ونصب لهم من الحجج أسطع حجة، وثبَّت رسوله صلى الله عليه وسلم أرسخ تثبيت، لا جرم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يوادعهم موادعة مستقرِب النصر، ويواعدهم ما أُعد لهم من خسر.وعدم عطف جملة { قُل } هذه على جملةقل حسبي الله } الزمر 38 لدفع توهم أن يكون أمره { قُلْ حسبي الله } لقصد إبلاغه إلى المشركين نظير ترك العطف في البيت المشهور في علم المعاني
وتظن سلمَى أنني أبغي بها بَدَلاً أَراها في الضلال تَهيم   
لم يعطف جملة أراها في الضلال، لئلا يتوهم أنها معطوفة على جملة أبغي بها بدلاً، ولأنها انتقال من غرض الدعوة والمحاجّة إلى غرض التهديد. وابتدأ المقول بالنداء بوصف القوم لما يشعر به من الترقيق لحالهم والأسف على ضلالهم لأن كونهم قومه يقتضي أن لا يدخرهم نصحاً.والمكانة المكان، وتأنيثه روعي فيه معنى البقعة، استعير للحالة المحيطة بصاحبها إحاطة المكان بالكائن فيه. والمعنى اعملوا على طريقتكم وحالكم من عداوتي، وتقدم نظيره في سورة الأنعام 135.وقرأ الجمهور { مكانتكم } بصيغة المفرد. وقرأ أبو بكر عن عاصم { مكاناتكم } بصيغة الجمع بألف وتاء.وقال تعالى هنا { مَن يأتيه عذابٌ يخزيه } ليكون التهديد بعذاب خزي في الدنيا وعذاب مقيم في الآخرة. فأما قوله في سورة الأنعام 135قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } فلم يذكر فيها العذاب لأنها جاءت بعد تهديدهم بقولهإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين } الأنعام 134.وحذف متعلِّق { إني عٰمِلٌ } ليَعمّ كل متعلِّق يصلح أن يتعلق بــــ { عٰمِل } مع الاختصار فإن مقابلته بقوله { اعملوا على مكانتكم } يدل على أنه أراد من { إني عٰمِل } أنه ثابت على عمله في نصحهم ودعوتهم إلى ما ينجيهم. وأن حذف ذلك مشعر بأنه لا يقتصر على مقدار مكانته وحالته بل حالة تزداد كل حين قوةً وشدة لا يعتريها تقصير ولا يثبطها إعراضهم، وهذا من مستتبعات الحذف ولم ننبه عليه في سورة الأنعام وفي سورة هود.و { مَن } استفهامية عَلَّقت فعل { تَعْلَمُون } عن العمل في مفعوليه.والعذاب المُخزي هو عذاب الدنيا. والمراد به هنا عذاب السيف يوم بدر. والعذاب المقيم هو عذاب الآخرة، وإقامته خلوده. وتنوين { عَذَابٌ } في الموضعين للتعظيم المراد به التهويل.وأسند فعل { يأتِيهِ } إلى العذاب المخْزي لأن الإِتيان مشعر بأنه يفاجئهم كما يأتي الطارق. وكذلك إسناد فعل { يَحل } إلى العذاب المقيممِ لأن الحلول مشعر بالملازمة والإِقامة معهم، وهو عذاب الخلود، ولذلك يسمى منزل القول حِلة، ويقال للقوم القاطنين غير المسافرين هم حِلال، فكان الفعل مناسباً لوصفه بالمقيم. وتعدية فعل { يحل } بحرف على للدلالة على تمكنه.