الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } * { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ }

{ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ }.لمّا ضرب الله مثلاً للمشركين والمؤمنين بمَثَل رجل فيه شركاء متشاكسون ورجلٍ خالصٍ لرجل، كان ذلك المثَل مثيراً لأن يقول قائِلُ المشركين لَتَتَأَلبَنَّ شركاؤنا على الذي جاء يحقرها ويسبها، ومثيراً لحمية المشركين أن ينتصروا لآلهتهم كما قال مشركو قوم إبراهيمحرقوه وانصروا آلهتكم } الأنبياء 68. وربما أنطقتهم حميتُهم بتخويف الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي الكشاف و«تفسير القرطبي» أن قريشاً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّا نخاف أن تُخْبِلَك آلهتُنا وإنا نخشى عليك معرتها بعين بعد الميم بمعنى الإِصابة بمكروه يَعنون المضرة لعيبك إياها». وفي «تفسير ابن عطية» ما هو بمَعنى هذا، فلمَّا حكى تكذيبَهم النبي عطف الكلام إلى ما هددوه به وخوفوه من شر أصنامهم بقوله { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه }.فهذا الكلام معطوف على قولهضَربَ الله مثَلاً رجُلاً فيه شُركاء } الزمر 29 الآية والمعنى أن الله الذي أفردتَه بالعبادة هو كافيك شر المشركين وباطل آلهتهم التي عبدوها من دونه، فقوله { أليس الله بكافٍ عبده } تمهيد لقوله و { يخوفونك بالذين من دونه } قدم عليه لتعجيل مساءة المشركين بذلك، ويستتبع ذلك تعجيل مسرة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله ضامن له الوقاية كقولهفسيكفيكهم اللَّه } البقرة 137. وأصل النظم ويُخوّفونك بالذين من دون الله والله كافيك، فغُير مجرى النظم لهذا الغرض، ولك أن تجعل نظم الكلام على ترتيبه في اللفظ فتجعل جملة { أليس الله بكاف عبده } استئنافاً، وتصير جملة { ويخوفونك } حالاً.ووقع التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاسم الظاهر وهو { عَبْدَه } دون ضمير الخطاب لأن المقصود توجيه الكلام إلى المشركين، وحُذف المفعول الثاني لــــ { كافٍ } لظهور أن المقصود كافيك أَذاهُم، فأما الأصنام فلا تستطيع أذىً حتى يُكْفاه الرسول صلى الله عليه وسلم والاستفهام إنكار عليهم ظنّهم أن لا حامِيَ للرسول صلى الله عليه وسلم من ضرّ الأصنام. والمراد بــــ { عَبْدَه } هو الرسول صلى الله عليه وسلم لا محالة وبقرينة و { يُخوفونك }.وفي استحضار الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية وإضافته إلى ضمير الجلالة، معنى عظيم من تشريفه بهذه الإِضافة وتحقيقِ أنه غير مُسلمِه إلى أعدائه.والخطاب في { ويخوفونك } للنبي صلى الله عليه وسلم وهو التفات من ضمير الغيبة العائد على { عبده } ، ونكتةُ هذا الإلتفات هو تمحيض قصد النبي بمضمون هذه الجملة بخلاف جملة { أليس الله بكاف عبده } كما علمت آنفاً.و { الذين من دونه } هم الأصنام. عُبر عنهم وهم حجارة بمَوصول العقلاءِ لكثرة استعمال التعبير عنهم في الكلام بصيغ العقلاء. و { من دونه } صلة الموصول على تقدير محذوف يتعلق به المجرور دل عليه السياق، تقديره اتخذُوهم من دونه أو عبَدُوهم من دونه.

السابقالتالي
2 3