الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

استئناف وهو من قبيل التعرض إلى المقصود بعد المقدمة فإن قولهولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } الروم 58 توطئة لهذا المثل المضروب لحال أهل الشرك وحال أهل التوحيد، وفي هذا الانتقال تخلص أُتبع تذكيرهم بما ضرب لهم في القرآن من كل مثل على وجه إجمالِ العموم استقصاءً في التذكير ومعاودة للإِرشاد، وتخلصاً من وصف القرآن بأن فيه من كل مثل، إلى تمثيل حال الذين كفروا بحالٍ خاص.فهذا المثل متصل بقوله تعالىأفَمَن شرَحَ الله صدرَهُ للإسلامِ } الزمر 22 إلى قولهأُولئِكَ في ضَلالٍ مُبينٍ } الزمر 22، فهو مثل لحال من شرح الله صدرهم للإِسلام وحال من قَست قلوبهم.ومجيء فعل { ضَرَبَ الله } بصيغة الماضي مع أن ضَرْب هذا المثل ما حصل إلا في زمن نزول هذه الآية لتقريب زمن الحال من زمن الماضي لقصد التشويق إلى علم هذا المثل فيجعل كالإِخبار عن أمر حصل لأن النفوس أرغب في علمه كقول المثوِّب قد قامت الصلاة. وفيه التنبيه على أنه أمر محقق الوقوع كما تقدم عند قوله تعالىوضرب اللَّه مثلاً قرية } في سورة النحل 112.أما صاحب «الكشاف» فجعل فِعل { ضرب } مستعملاً في معنى الأمر إذ فسره بقوله اضرِبْ لهم مثلاً وقُل لهم ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء، إلى آخر كلامه، فكان ظاهر كلامه أن الخبر هنا مستعمل في الطلب، فقرره شارحوه الطيبي والقزويني والتفتزاني بما حاصل مجموعه أنه أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع قولهولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كُلّ مثلٍ } الزمر 27 عَلِم أنه سينزل عليه مَثَل من أمثال القرآن فأنبأه الله بصدق ما عَلمه وجعَله لتحققه كأنه ماض.وليلائم توجيه الاستفهام إليهم بقوله هَلْ يَسْتَوِيَانِ مثلاً } فإنه سؤال تبكيت فتلتئم أطراف نظم الكلام، فعُدل عن مقتضى الظاهر من إلقاء ضرب المثل بصيغة الأمر إلى إلقائه بصيغة المضيّ لإِفادة صدق علم النبي صلى الله عليه وسلم وكل هذا أدق معنى وأنسب ببلاغة القرآن مِن قول من جعل المضي في فعل { ضَرَب } على حقيقته وقال إن معناه ضرب المثل في علمه فأخبِرْ به قومك.فالذي دعا الزمخشري إلى سلوك هذا المعنى في خصوص هذه الآية هو رعي مناسبات اختص بها سياق الكلام الذي وقعت فيه، ولا داعي إليه في غيرها من نظائر صيغتها مما لم يوجد لله فيه مقتضٍ لِنحو هذا المحمل، ألا ترى أنه لا يتأتى في نحو قولهألم تر كيف ضرب اللَّه مثلاً كلمة } كما في سورة إبراهيم24، وقد أشرنا إليه عند قولهوضرب اللَّه مثلاً قرية } في سورة النحل 112.وقد يقال فيه وفي نظائره إن العدول عن أن يصاغ بصيغة الطلب كما في قوله

السابقالتالي
2 3