الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

عطف على جملةالله نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ } الزمر 23 إلى قولهفَما لهُ مِن هَادٍ } الزمر 23، تتمة للتنويه بالقرآن وإرشاده، وللتعريض بتسفيه أحلام الذين كذّبوا به وأعرضوا عن الاهتداء بهديه. وتأكيد الخبر بلام القسم وحرفِ التحقيق منظور فيه إلى حال الفريق الذين لم يتدبروا القرآن وطعنوا فيه وأنكروا أنه من عند الله.والتعريف في { الناس } للاستغراق، أي لجميع الناس، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم للناس كافة.وضَرْب المثل ذِكره ووصفُه، وقد تقدم في قوله تعالىإن اللَّه لا يستحيِّ أن يضرب مثلاً } في سورة البقرة 26. وتنوين { مَثَلٍ } للتعظيم والشرف، أي من كل أشرف الأمثال، فالمعنى ذكرنا للناس في القرآن أمثالاً هي بعض من كل أنفع الأمثال وأشرفها. والمراد شرف نفعها.وخُصّت أمثال القرآن بالذكر من بين مزايا القرآن لأجل لَفت بصائرهم للتدبر في ناحية عظيمة من نواحي إعجازه وهي بلاغة أمثاله، فإن بلغاءهم كانوا يتنافسون في جَودة الأمثال وإصابتها المحزّ من تشبيه الحالة بالحالة. وتقدم هذا عند قوله تعالىولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } في سورة الإِسراء 89، وتقدم في قولهولقَد ضَرَبنا للنَّاسِ في هذَا القُرْآنِ مِن كل مَثَلٍ } في سورة الروم 58.ومعنى الرجاء في { لَعَلَّهُم يتذَكَّرُونَ } منصرف إلى أن حالهم عند ضرب الأمثال القرآنية كحال من يرجو الناس منه أن يتذكر، وهذا مِثل نظائر هذا الترجي الواقع في القرآن، وتقدم في سورة البقرة.ومعنى التذكر التأمل والتدبر لينكشف لهم ما هم غافلون عنه سواء ما سبق لهم به علم فنسُوه وشُغلوا عنه بسفسَافِ الأمور، وما لم يسبق لهم علم به مما شأنه أن يستبصره الرأي الأصيل حتى إذا انكشف له كان كالشيء الذي سبق له علمه وذهِل عنه، فمعنى التذكر معنى بديع شامل لهذه الخصائص.وهذا وصفُ القرآن في حدّ ذاته إن صادف عقلاً صافياً ونفساً مجردة عن المكابرة فتذكر به المؤمنون به من قبل، وتذكّر به من كان التذكّر به سبباً في إيمانه بعد كفره بسرعة أو ببطء، وأما الذين لم يتذكروا به فإن عدم تذكرهم لنقص في فطرتهم وتغشية العناد لألبابهم. وكذلك معنى قوله { لعلَّهُم يتَّقُونَ }.وانتصب { قُرْءَاناً } على الحال من اسم الإِشارة المبيَّن بالقرآن، فالحال هنا موطئة لأنها توطئة للنعت في قوله تعالى { قُرْءَاناً عَرَبِيَّاً } وإن كان بظاهر لفظ { قُرْءَاناً } حالاً مؤكدة ولكن العبرة بما بعده، ولذلك قال الزجاج إن { عَرَبِيَّاً } منصوب على الحال، أي لأنه نعت للحال.والمقصود من هذه الحال التورك على المشركين حيث تلقوا القرآن تلقيَ من سمع كلاماً لم يفهمه كأنه بلغة غير لغته لا يُعيره بالاً كقوله تعالىفإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون } الدخان 58، مع التحدّي لهم بأنهم عجزوا عن معارضته وهو من لغتهم، وهو أيضاً ثناء على القرآن من حيث إنه كلام باستقامة ألفاظه لأن اللغة العربية أفصح لغات البشر.

السابقالتالي
2