الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ }.استئناف بياني نشأ بمناسبة المضادة بين مضمون جملةفَوَيْلٌ للقاسِيةِ قُلوبهم من ذِكر الله } الزمر 22. ومضمون هذه الجملة وهو أن القرآن يُلين قلوب الذين يخشون ربهم لأن مضمون الجملة السابقة يثير سؤال سائل عن وجه قسوة قلوب الضالين من ذكر الله فكانت جملة { الله نَزَّلَ أحْسَنَ الحدِيثِ } إلى قوله { مِنْ هَادٍ } مُبينة أن قساوة قلوب الضالّين من سماع القرآن إنما هي لرَيْن في قلوبهم وعقولهم لا لنقص في هدايته. وهذا كما قال تعالى في سورة البقرةهدى للمتقين } ثم قالإن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } البقرة 6 ــــ 7.وهذه الجملة تكميل للتنويه بالقرآن المفتتح به غرض السورة وسيقفى بثناء آخر عند قولهولقد ضربْنَا للنَّاسِ في هٰذَا القُرأنِ من كل مَثَل لعلَّهُم يتذَكَّرُونَ } الزمر 27 الآية، ثم بقولهإنَّا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق } الزمر 41 ثم بقولِهواتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } الزمر 55. وافتتاح الجملة باسم الجلالة يؤذن بتفخيم أحسن الحديث المنزل بأن منزّله هو أعظم عظيم، ثم الإِخبار عن اسم الجلالة بالخبر الفعلي يدل على تقوية الحُكم وتحقيقه على نحو قولهم هو يعطي الجزيل، ويفيد مع التقوية دلالة على الاختصاص، أي اختصاص تنزيل الكتاب بالله تعالى، والمعنى الله نزّل الكتاب لا غيرُه وضَعه، ففيه إثبات أنه منزّل من عالم القدس، وذلك أيضاً كناية عن كونه وحياً من عند الله لا من وضع البشر. فدلت الجملة على تقوَ واختصاص بالصراحة، وعلى اختصاص بالكناية، وإذ أخذ مفهوم القصْر ومفهوم الكناية وهو المغاير لمنطوقهما كذلك يؤخذ مغاير التنزيل فعلاً يليق بوضع البشر، فالتقدير لا غير الله وضَعه، ردّاً لقول المشركين هو أساطير الأولين.والتحقيق الذي درج عليه صاحب «الكشاف» في قوله تعالىاللَّه يستهزىء بهم } البقرة 15 هو أن التقوى والاختصاص يجتمعان في إسناد الخبر الفعلي إلى المسند إليه، ووافقه على ذلك شرّاح «الكشاف».ومفاد هذا التقديم على الخبر الفعلي فيه تحقيقٌ لما تضمنته الإِضافة من التعظيم لشأن المضاف في قوله تعالىمِن ذِكرِ الله } الزمر 22 كما علمتَه آنفاً، فالمراد بــــ { أحْسَنَ الحدِيثِ } عين المراد بــــ { ذِكرِ الله } وهو القرآن، عدل عن ذكر ضميره لقصد إجراء الأوصاف الثلاثة عليه. وهي قوله { كِتاباً مُتشابِهاً مثَاني تَقْشَعر منه جلودُ الذين يخشونَ ربَّهُم } الخ، فانتصب { كِتاباً } على الحال من { أحْسَنَ الحدِيثِ } أو على البدلية من { أحْسَنَ الحدِيثِ } ، وانتصب { مُتَشَابهاً } على أنه نعتُ { كِتَاباً }.الوصف الأول أنه أحسن الحديث. أي أحسن الخبر، والتعريف للجنس، والحديث الخبر، سمي حديثاً لأن شأن الإِخبار أن يكون عن أمر حدث وجدّ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7