الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } تفريع على ما تقدم من قولهلكِن الذين اتقوا ربهم لهم غرفٌ } الزمر 20 وما ألحق به من تمثيل حالهم في الانتفاع بالقرآن فُرع عليه هذا الاستفهام التقريري.و مَن موصلة مبتدأ، والخبر محذوف دل عليه قوله { لكِن الذينَ اتَّقوا ربَّهُم } مما اقتضاه حرف الاستدراك من مخالفة حالة لحال من حق عليه كلمة العذاب.والتقدير أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه مِثل الذي حقّ عليه كلمة العذاب فهو في ظلمة الكفر، أو تقديره مثل من قسا قلبه بدلالة قوله { فَوَيلٌ للقاسِيَةِ قلوبُهم } ، وهذا من دلالة اللاحق.وشرحُ الصدر للإِسلام استعارة لقبول العقل هديَ الإِسلام ومحبّته. وحقيقة الشرح أنه شق اللحم، ومنه سمي علم مشاهدة باطن الأسباب وتركيبه علم التشريح لتوقفه على شق الجلد واللحم والإطلاع على ما تحت ذلك. ولما كان الإِنسان إذا تحير وتردد في أمر يجدّ في نفسه عما يتأثر منه جهازه العصبي فيظهر تَأثره في انضغاط نَفَسه حتى يصير تنفسه عسيراً ويكثر تنهده وكان عضو التنفس في الصدر، شبه ذلك الانضغاط بالضيق والانطباق فقالوا ضاق صدره، قال تعالى عن موسىويضيق صدري } الشعراء 13، وقالوا انطبق صدره وانطبقت أضلاعه وقالوا في ضد ذلك شرح الله صدره، وجمع بينهما قوله تعالىفمن يرد اللَّه أن يهديه يشرحْ صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّدُ في السماء } في سورة الأنعام 125، ومنه قولهم فلان في انشراح، أي يحس كأن صدره شُرح ووُسع.ومن رشاقة ألفاظ القرآن إيثار كلمة { شَرح } للدلالة على قبول الإِسلام لأن تعاليم الإِسلام وأخلاقه وآدابه تكسب المسلم فرحاً بحاله ومسرة برضى ربه واستخفافاً للمصائب والكوارث لجزمه بأنه على حق في أمره وأنه مثاب على ضره وأنه راجٍ رحمة ربه في الدنيا والآخرة ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره.فإن المؤمن أول ما يؤمن بأن الله واحد وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله ينشرح صدره بأنه ارتفع درجات عن الحالة التي كان عليها حالةَ الشرك إن اجتنبَ عبادة أحجار هو أشرف منها ومعظم ممتلكاته أشرف منها كفرسه وجمله وعبده وأَمته وماشيته ونخِله، فشعر بعزة نفسه مرتفعاً عما انكشف له من مهانتها السابقة التي غسلها عنه الإِسلام، ثم أصبح يقرأ القرآن وينطق عن الحكمة ويتسم بمكارم الأخلاق وأصالة الرأي ومحبة فعل الخير لوجه الله لا للرياء والسمعة، ولا ينطوي باطنه على غلّ ولا حسد ولا كراهية في ذات الله وأصبح يُعد المسلمين لنفسه إخواناً، وقد ترك الاكتساب بالغارة والميسر، واستغنى بالقناعة عَن الضراعة إلا إلى الله تعالى، وإذا مسه ضر رجا زواله ولم ييأس من تغير حاله.

السابقالتالي
2 3