الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }

استئناف ابتدائي انتُقل به إلى غرض التنويه بالقرآن وما احتوى عليه من هدى الإِسلام، وهو الغرض الذي ابتدئت به السورة وانثنى الكلام منه إلى الاستطراد بقوله تعالىفاعبد اللَّه مخلصاً له الدين } الزمر 2 إلى هنا، فهذا تمهيد لقولهأفَمَن شَرَحَ الله صَدرهُ للإسلامِ } الزمر 22 إلى قولهذلِكَ هُدَى الله يهْدِي به من يشاءُ } الزمر 23 فمُثلت حالة إنزال القرآن واهتداء المؤمنين به والوعدُ بنماء ذلك الاهتداء، بحالة إنزال المطر ونبات الزرع به واكتماله. وهذا التمثيل قابل لتجزئة أجزائه على أجزاء الحالة المشبه بها فإِنزال الماء من السماء تشبيه لإِنزال القرآن لإِحياء القلوب، وإسلاكُ الماء ينابيع في الأرض تشبيه لِتبليغ القرآن للناس، وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طَيِّب وغيره، ونافع وضار، وهياج الزرع تشبيه لِتكاثر المؤمنين بين المشركين. وأما قوله تعالى { ثُمَّ يَجْعلُهُ حُطاماً } فهو إدماج للتذكير بحالة الممات واستواءِ الناس فيها من نافع وضار. وفي تعقيب هذا بقولهأفَمَن شَرَحَ الله صدرَهُ للإسلامِ } الزمر 22 إلى قولهوَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } الزمر 23 إشارة إلى العبرة من هذا التمثيل.وقريب من تمثيل هذه الآية ما في «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقيَّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشُب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً فذلك مَثَل من فقُه في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومثَل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به " ويجوز أن يكون المعنى أصالةً وإدماجاً على عكس ما بيّنا، فيكونَ عَوْداً إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالالٰهية بدليل من مخلوقاته التي يشاهدها الناس مشاهدة متكررة، فيكونَ قوله تعالى { ألم ترَ أن الله أنزل من السماءِ ماءً } إلى قوله { إن في ذلك لذكرى لأولي الألبابِ } متصلاً بقوله تعالىخلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثمَّ جعَلَ منها زَوجَهَا } الزمر 6 المتصل بقوله تعالىخَلَق السماواتِ والأرض بالحقِ يُكورُ الليل على النَّهار } الزمر 5، ويكونَ ما بيناه من تمثيل حال نزول القرآن وانتفاع المؤمنين إدماجاً في هذا الاستدلال. وعلى كلا الوجهين أُدمج في أثناء الكلام إيماء إلى إمكان إحياء الناس حياة ثانية.والكلام استفهام تقريري، والخطاب لكل من يصلح للخطاب فليس المراد به مخاطباً معيَّناً. والرؤية بصرية.وقوله { أنزلَ مِن السماءِ ماءً } تقدم نظيره في قولهوهو الذي أنزل من السماء ماء } في سورة الأنعام 99.و { سلكه } أدخله، أي جعله سالكاً، أي داخلاً، ففعل سلك هنا متعد وقد تقدم عند قوله تعالى

السابقالتالي
2 3