الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ }

لما أفاد الحصر في قولهلهُم البُشْرىٰ } الزمر 17 والحصران اللذان في قولهأُولئِكَ الذينَ هداهُم الله وأُولئِكَ هم أُولو الألبابِ } الزمر 18 أنّ من سواهم وهم المشركون لا بشرى لهم ولم يهدهم الله ولا ألباب لهم لعدم انتفاعهم بعقولهم، وكان حاصل ذلك أن المشركين محرومون من حسن العاقبة بالنعيم الخالد لحرمانهم من الطاعة التي هي سببه فُرع على ذلك استفهام إنكاري مفيد التنبيه على انتفاء الطماعية في هداية الفريق الذي حقت عليه كلمة العذاب، وهم الذين قُصد إقصاؤهم عن البشرى، والهدايةِ والانتفاعِ بعقولهم، بالقصر المصوغة عليه صِيَغ القصر الثلاث المتقدمة كما أشرنا إليه.وقَد جاء نظم الكلام على طريقة مبتكرة في الخبر المهتم به بأن يؤكد مضمونه الثابت للخبر عنه، بإثبات نقيضِ أو ضدِّ ذلك المضمون لضد المخبر عنه ليتقرر مضمون الخبر مرتين مرةً بأصله ومرة بنقيضه أو ضده، لضد المخبر عنه كقوله تعالىهذا وإن للطاغين لشر مآب } ص 55 عَقب قولههذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب } ص 49. ويكثر أن يقع ذلك بعد الإِتيان باسم إشارة للخبر المتقدم كما في الآية المذكورة أو للمخبر عنه كما في هذه السورة في قوله آنفاًأُولئِكَ الذين هداهُم الله } الزمر 18 فإنه بعد أن أشير إلى الموصوفين مرتين فرع عليه بعده إثبات ضد حكمهم لمن هم متصفون بضد حالهم.وبهذا يَظهر حسن موقع الفاء لتفريع هذه الجملة على جملةأُولئك الذين هداهم الله وأُولئك هم أُولو الألبابِ } الزمر 18 لأن التفريع يقتضي اتصالاً وارتباطاً بين المفرَّع والمفرّع عليه، وذلك كالتفريع في قول لبيد
أفتلك أم وحشيةٌ مَسْبُوعَة خَذَلت وهاديةُ الصِوار قِوامها   
إذ فَرَّع تشبيهاً على تشبيه لاختلاف المشبه بهما.وكلمة { العذَابِ } كلام وعيد الله إياهم بالعذاب في الآخرة. ومعنى { حَقَّ } تحققت في الواقع، أي كانت كلمة العذاب المتوعَّد بها حقّاً غير كذب، فمعنى { حَقَّ } هنا تحقق، وحَقّ كلمة العذاب عليهم ضد هدي الله الآخرين، وكونُهم في النار ضد كون الآخرين لهم البشرى، وترتيبُ المتضادْين جرى على طريقة شِبه اللف والنشر المعكوس، نظير قوله تعالىإن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم اللَّه على قلوبهم } البقرة 6، 7 إلى قولهولهم عذاب عظيم } البقرة 7 بعد قولهوالذين يؤمنون بما أنزل إليك } البقرة 4 إلى قولهأولئك على هدىٰ من ربهم وأولئك هم المفلحون } البقرة 5، فإن قوله { ختم اللَّه على قلوبهم } ضد لقوله { أولئك على هدى من ربهم } وقوله { ولهم عذاب عظيم } ضد قوله { وأولئك هم المفلحون }. و مَن من قوله تعالى { أفَمن حقَّ عليهِ كلمةُ العذَابِ } روي عن ابن عباس أن المراد بها أبو لهب وولدُه ومن تخلف عن الإِيمان من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مَنْ مبتدأ حذف خبره.

السابقالتالي
2 3 4