الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

لما أجري الثناء على المؤمنين بإقبالهم على عبادة الله في أشدّ الآناء وبشدة مراقبتهم إياه بالخوف والرجاء وبتمييزهم بصفة العلم والعقل والتذكر، بخلاف حال المشركين في ذلك كله، أُتبع ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإِقبال على خطابهم للاستزادة من ثباتهم ورباطة جأشهم، والتقديرُ قل للمؤمنين، بقرينة قوله { ياعِبَادِ الذين ءَامنُوا } الخ.وابتداء الكلام بالأمر بالقول للوجه الذي تقدم في نظيره آنفاً، وابتداء المقول بالنداء وبوصف العبودية المضاف إلى ضمير الله تعالى، كل ذلك يؤذن بالاهتمام بما سيقال وبأنه سيقال لهم عن ربهم، وهذا وضعٌ لهم في مقام المخاطبة من الله وهي درجة عظيمة. وحذفت ياء المتكلم المضاف إليها { عباد } وهو استعمال كثير في المنادَى المضاف إلى ياء المتكلم.وقرأه العشرة { يَاعِبادِ } بدون ياء في الوصل والوقف كما في إبراز المعاني لأبي شامة وكما في «الدرة المضيئة» في القراءات الثلاث المتممة للعشر لعلي الضباع المصري، بخلاف قوله تعالىقل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الزمر 53 الآتي في هذه السورة، فالمخالفة بينهما مجرد تفنن. وقد يوجه هذا التخالف بأن المخاطبين في هذه الآية هم عباد الله المتقون، فانتسابهم إلى الله مقرر فاستُغني عن إظهار ضمير الجلالة في إضافتهم إليه، بخلاف الآية الآتية، فليس في كلمة { يَاعِبَادِ } من هذه الآية إلاَّ وَجه واحد باتفاق العشرة ولذلك كتبها كتّاب المصحف بدون ياء بعد الدال.وما وقع في «تفسير ابن عطية» من قوله " وقرأ جمهور القراء { قل يا عباديَ } بفتح الياء. وقرأ أبو عمرو أيضاً وعاصم والأعشى وابن كثير { يا عِبَادِ } بغير ياء في الوصل " ا هــــ. سهو، وإنما اختلف القراء في الآية الآتيةقُل ياعِبَادي الذين أسرفوا على أنفسهم } في هذه السورة 53 فإنها ثبتت فيه ياء المتكلم فاختلفوا كما سنذكره.والأمر بالتقوى مراد به الدوام على المأمور به لأنهم متّقون من قبلُ، وهو يشعر بأنهم قد نزل بهم من الأذى في الدين ما يخشى عليهم معه أن يُقصّروا في تقواهم. وهذا الأمر تمهيد لما سيوجه إليهم من أمرهم بالهجرة للسلامة من الأذى في دينهم، وهو ما عُرض به في قوله تعالى { وأرْضُ الله واسِعَة }.وفي استحضارهم بالموصول وصلته إيماء إلى أن تقَرر إيمانهم مما يقتضي التقوى والامتثال للمهاجرة. وجملة { للذين أحسنوا في هذه الدُّنيا حسنةٌ } وما عطف عليها استئناف بياني لأن إيراد الأمر بالتقوى للمتصفين بها يثير سؤال سائل عن المقصود من ذلك الأمر فأريد بيانه بقوله { أرض الله واسعة } ، ولكن جُعل قوله { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } تمهيداً له لقصد تعجيل التكفل لهم بموافقة الحسنى في هجرتهم. ويجوز أن تكون جملة { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } مسوقة مساق التعليل للأمر بالتقوى الواقع بعدها.

السابقالتالي
2 3 4