الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ هَـٰذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } * { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } * { مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } * { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ أَتْرَابٌ }

{ هٰذَا ذِكْرٌ } جملة فَصلت الكلامَ السابق عن الكلام الآتي بعدها قصداً لانتقال الكلام من غرض إلى غرض مثل جملة أما بعد فكذا ومثل اسم الإِشارة المجرّد نحوهذا وإن للطاغين لشر مآب } ص 55، وقولهذلك ومن يعظم حرمات الله } الحج 30،وذلك ومن يعظم شعائر الله } في سورة الحج 32. قال في «الكشاف» وهو كما يقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر هذا وقد كان كيْتَ وكَيت اهــــ. وهذا الأسلوب من الانتقال هو المسمى في عرف علماء الأدب بالاقتضاب وهو طريقة العرب ومن يليهم من المخضرمين، ولهم في مثله طريقتان أن يذكروا الخبر كما في هذه الآية وقولِ المؤلفين هذا باب كذا، وأن يحذفوا الخبر لدلالة الإِشارة على المقصود، كقوله تعالىذلك ومن يعظم حرمات الله } الحج 30، أي ذلك شأن الذين عمِلوا بما دعاهم إليه إبراهيم وذكروا اسم الله على ذبائحهم ولم يذكروا أسماء الأصنام، وقولهذلك ومن يعظم شعائر الله } الحج 32 أي ذلك مثل الذين أشركوا بالله، وقوله بعد آياتهذا وإن للطاغين لشر مئاب } ص 55 أي هذا مآب المتقين، ومنه قول الكاتب هذا وقد كان كَيْت وكَيْتتِ، وإنما صرح بالخبر في قوله { هٰذَا ذِكرٌ } للاهتمام بتعيين الخبر، وأن المقصود من المشار إليه التذكر والاقتداء فلا يأخذ السامع اسم الإِشارة مأخذ الفصل المجرَّد والانتقالِ الاقتضابي، مع إرادة التوجيه بلفظ { ذكر } بتحميله معنى حُسن السمعة، أي هذا ذكر لأولئك المسمَّيْن في الآخرين مع أنه تذكرة للمقتدِين على نحو المعْنَيَيْن في قوله تعالىوإنه لذكر لك ولقومك } في سورة الدخان الزخرف 44.ومن هنا احتمل أن تكون الإِشارة بــــ { هذا } إلى القرآن، أي القرآن ذِكر، فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً للتنويه بشأن القرآن رَاجعاً إلى غَرض قوله تعالىكتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } ص 29.والواو في { وإن للمتقين } الخ، يجوز أن تكون للعطف الذكري، أي انتهى الكلام السابق بقولنا { هذا } ونعطف عليه { إنَّ للمُتَّقينَ } الخ. ويجوز أن تكون واو الحال. وتقدم معنى { حسن مئاب }. واللام في { للمُتَّقينَ } لام الاختصاص، أي لهم حسن مآب يوم الجزاء. وانتصب { جنَّاتِ عدنٍ } على البيان من { حسن مئاب }. والعدن الخلود. و { مُفَتَحَةً } حال من { جنَّاتِ عدنٍ } ، والعامل في الحال ما في { للمُتَّقينَ } من معنى الفعل وهو الاستقرار فيكون ال في { الأبوابُ } عوضاً عن الضمير. والتقدير أبوابها، على رأي نحاة الكوفة، وأما عند البصريين فــــ { الأبواب } بدل من الضمير في { مُفتَّحَةً } على أنه بدل اشتمال أو بعض والرابط بينه وبين المبدل منه محذوف تقديره الأبواب منها. وتفتيح الأبواب كناية عن التمكين من الانتفاع بنعيمها لأن تفتيح الأبواب يستلزم الإِذن بالدخول وهو يستلزم التخلية بين الداخل وبين الانتفاع بما وراء الأبواب.

السابقالتالي
2