الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ } * { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ } * { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ }

القول فيه كالقول في نظائره لغةً ومعنى. وذِكر هؤلاء الثلاثة ذكر اقتداء وائتساء بهم، فأما إبراهيم عليه السّلام فيما عرف من صبره على أذى قومه، وإلقائه في النار، وابتلائه بتكليف ذبح ابنه، وأما ذِكر إسحاق ويعقوبَ فاستطراد بمناسبة ذكر إبراهيم ولما اشتركا به من الفضائل مع أبيهم التي يجمعها اشتراكهم في معنى قوله { أُولي الأيدِي والأبصارِ } ليقتدي النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثتهم في القوة في إقامة الدين والبصيرة في حقائق الأمور.وابتدىء بإبراهيم لتفضيله بمقام الرسالة والشريعة، وعطف عليه ذكر ابنه وعطف على ابِنه ابنه يعقوب. وقرأ الجمهور { واذكر عبادنا } بصيغة الجمع على أن { إبراهيم } ومن عطف عليه كله عطف بيان. وقرأ ابن كثير { عَبدنا } بصيغة الإفراد على أن يكون { إِبْرَاهِيمَ } عطف بيان من { عبدنا } ويكون { إسحاق ويعقوب } عطف نسق على { عبدنا }. ومآل القراءتين متّحد. و { الأيدي } جمع يد بمعنى القوة في الدين. كقوله تعالىوالسماء بنيناها بأيد } في سورة الذاريات 47. و { الأبصار } جمع بصر بالمعنى المجازي، وهو النظر الفكري المعروف بالبصيرة، أي التبصر في مراعاة أحكام الله تعالى وتوخّي مرضاته.وجملة { إنَّا أخلصناهُم } علة للأمر بذكرهم لأن ذكرهم يكسب الذاكر الاقتداء بهم في إخلاصهم ورجاء الفوز بما فازوا به من الاصطفاء والأفضلية في الخير. و { أخْلَصْناهُم } جعلناهم خالصين، فالهمزة للتعدية، أي طهرناهم من درَن النفوس فصارت نفوسهم نقية من العيوب العارضة للبشر، وهذا الإِخلاص هو معنى العصمة اللازمة للنبوءة. والعصمة قوة يجعلها الله في نفس النبي تَصْرِفُه عن فعل ما هو في دينه معصية لله تعالى عمداً أو سهواً، وعمّا هو موجب للنفرة والاستصغار عند أهل العقول الراجحة من أمة عصره. وأركان العصمة أربعةالأول خاصية للنفس يخلقها الله تعالى تقتضي ملكة مانعة من العصيان.الثاني حصول العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.الثالث تأكد ذلك العلم بتتابع الوحي والبيان من الله تعالى.الرابع العتاب من الله على ترك الأوْلى وعلى النسيان.وإسناد الإِخلاص إلى الله تعالى لأنه أمر لا يحصل للنفس البشرية إلا بجعل خاص من الله تعالى وعناية لَدُنِيّة بحيث تنزع من النفس غلبة الهوى في كل حال وتصرف النفس إلى الخير المحض فلا تبقى في النفس إلا نزعات خفيفة تُقلع النفس عنها سريعاً بمجرد خطورها، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لُيَغَانُ على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " والباء في { بخالصةٍ } للسببية تنبيهاً على سبب عصمتهم. وعبر عن هذا السبب تعبيراً مجملاً تنبيهاً على أنه أمر عظيم دقيق لا يتصور بالكنه ولكن يعرف بالوجه، ولذلك استحضر هذا السبب بوصف مشتق من فعل { أخلصناهم } على نحو قول " النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن اقْتناعه من أكل لحم الضبّ " أني تحضرني من اللَّه حاضرة "

السابقالتالي
2