الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } * { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ }

قد قلت آنفاً عند قوله تعالىووهبنا لداوود سليمان } ص 30 إن ما ذكر من مناقب سليمان لم يخل من مقاصد ائتساء وعبرة وتحذير على عادة القرآن في ابتدار وسائل الإِرشاد بالترغيب والترهيب، فكذلك كانت الآيات المتعلقة بندمه على الاشتغال بالخيل عن ذكر الله موقع أسوة به في مبادرة التوبة وتحذير من الوقوع في مثل غفلته، وكذلك جاءت هذه الآيات مشيرة إلى فتنة عرضت لسليمان أعقبتها إنابة ثم أعقبتها إفاضة نعم عظيمة فذكرت عقب ذكر قصة ما ناله من السهو عن عبادته وهو دون الفتنة. والفَتن والفتون والفتنة اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحلّ به، وتقدم ذلك عند قوله تعالىإنما نحن فتنة } في سورة البقرة 102 وقد أشارت الآية إلى حدث عظيم حلّ بسليمان، واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة فذكروا قصصاً هي بالخرافات أشبه، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه. ومن أغربها قولهم إنه ولد له ابن فخاف عليه الناسَ أن يقتلوه فاستودعه الريح لتحضنه وترضعه دَرّ ماء المُزن فلم يلبث أن أصابه الموت وألقته الريح على كرسي سليمان ليعلم أنه لا مردّ لمحتوم الموت. وهذا ما نظمه المعري تبعاً لأوهام الناس فقال حكاية عن سليمان
خَاف غدْر الأنامِ فاستودع الريــــ ـــحَ سَليلاً تغذوه دَرَّ العِهَاد وتوخّى النجاةَ وقد أيْـــ ـــقَنَ أن الحِمام بالمرصاد فرمتْه به على جَانب الكُر سِيِّ أمّ اللّهَيْم أُخْتُ النّآد   
والذي يظهر من السياق أن قوله تعالى { وألقينا على كرسيه جسداً } إشارة إلى شيء من هذه الفتنة ليرتبط قوله { ثمَّ أنابَ } بذلك.ويحتمل أنه قصة أخرى غير قصة فتنته. وأظهر أقوالهم أن تكون الآية إشارة إلى ما في «صحيح البخاري» «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال سليمان لأَطُوفَنّ الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه قل إن شاء الله. فلم يقل إن شاء الله. فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا إمرأة واحدة جاءت بشقِّ رَجل، وأيْم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون» " وليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك تأويل هذه الآية ولا وضع البخاري ولا الترمذي الحديثَ في التفسير من كتابيهما. قال جماعة فذلك النصف من الإِنسان هو الجَسد الملقَى على كرسيّه جاءت به القابلة فألقته له وهو على كرسيه، فالفتنة على هذا خيبة أمله ومخالفة ما أبلغه صاحبُه.وإطلاق الجسد على ذلك المولود إمّا لأنه وُلِد ميتاً، كما هو ظاهر قوله «شق رجل»، وإمّا لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد. وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيّاً ولا أنه جلس على كرسي سليمان.

السابقالتالي
2 3 4