الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } * { فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } * { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ }

يتعلق { إذْ عُرِضَ } بــــأوَّابٌ } ص 30. وتعليق هذا الظرف بــــ { أوَّابٌ } تعليق تعليل لأن الظروف يراد منها التعليل كثيراً لظهور أن ليس المراد أنه أوّاب في هذه القصة فقط لأن صيغة أوّاب تقتضي المبالغة. والأصل منها الكثرة فتعين أن ذكر قصة من حوادث أوبته كان لأنها ينجَلي فيها عِظم أوبته. والعَرض الإِمرار والإِحضار أمام الرائِي، أي عرَض سُواس خيله إياها عليه.والعَشيّ من العصر إلى الغروب. وتقدم في قولهبالغداة والعشي } في سورة الأنعام 52. وذلك وقت افتقاد الخيل والماشية بعد رواحها من مراعيها ومراتعها. وذكر العشي هنا ليس لمجرد التوقيت بل ليبنى عليه قوله { حتَّى توارتْ بالحجابِ } ، فليس ذكر العشيّ في وقع هذه الآية كوقعه في قول عمرو بن كلثوم
ملوك من بني جشم بن بكر يساقون العشيةَ يُقتلونا   
و { الصافنات } وصف لموصوف محذوف استغنى عن ذكره لدلالة الصفة عليه لأن الصافن لا يكون إلا من الخيل والأفراس وهو الذي يقف على ثلاث قوائم وطرف حافر القائمة الرابعة لا يمكّن القائمة الرابعة من الأرض، وتلك من علامات خفته الدالة على كرم أصل الفرس وحسن خلاله، يقال صفن الفرس صُفوناً، وأنشده ابن الأعربي والزجّاج في صفة فرس
ألفَ الصُّفون فلا يزال كأنه مما يقوم على الثلاثِ كَسيرا   
{ الجِياد } جمع جواد بفتح الواو وهو الفرس ذو الجَودة، أي النفاسة، وكان سليمان مولَعاً بالإِكثار من الخيل والفرسان، فكانت خيله تعد بالآلاف.وأصل تركيب { أحْببتُ حبَّ الخيرِ } أحببتُ الخير حُبًّا، فحول التركيب إلى { أحببتُ حب الخيرِ } فصار { حُبَّ الخيرِ } تمييزاً لإِسناد نسبة المحبة إلى نفسه لغرض الإِجمال ثم التفصيل كقوله تعالىوفجرنا الأرض عيوناً } القمر 12 وقول كعب بن زهير
أكرم بها خلة   
وقولهم لله دره فَارساً.وضمن { أحْبَبْتُ } معنى عَوَّضت، فعدِّي بــــ { عن } في قوله { عن ذِكرِ ربي } فصار المعنى أحببت الخير حبّاً فجاوزت ذكر ربي. والمراد بذكر الرّب الصلاة، فلعلها صلاة كان رتبها لنفسه لأن وقت العشي ليست فيه صلاة مفروضة في شريعة موسى إلا المغرب.و { الخير } المال النفيس كما في قوله تعالىإن ترك خيراً } البقرة 180. والخيل من المال النفيس. وقال الفراء الخير بالراء من أسماء الخيل. والعرب تعاقب بين اللام والراء كما يقولون انهملت العين وانهمرت. وختل وختر إذا خدع.وقلت إن العرب من عادتهم التفاؤل ولهم بالخيل عناية عظيمة حتى وصفوا شياتها وزعموا دلالتها على بخت أو نحس فلعلهم سموها الخير تفاؤلاً لتتمحض للسعد والبخت. وضمير { تَوارَتْ } للشمس بقرينة ذكر العشي وحرف الغاية ولفظ الحجاب، على أن الإِضمار للشمس في ذكر الأوقات كثير في كلامهم. كما قال لبيد
حتى إذا ألقتْ يداً في كافر وأجنّ عَورات الثغور ظلامها   
أي ألقت الشمس يدها في الظلمة، أي ألقت نفسها فهو من التعبير عن الذات ببعض أعضائها.

السابقالتالي
2 3