الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ }

استئناف بياني لأن العزة عن الحق والشقاقَ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم مما يثير في خاطر السامع أن يسأل عن جزاء ذلك فوقع هذا بياناً له، وهذه الجملة معترضة بين جملةبل الذين كفروا في عزَّةٍ وشقاق } ص2، وبين جملةوعجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم } ص4.وكان هذا البيان إخبَاراً مُرفَقاً بحجة من قبيل قياس تمثيل، لأن قوله { مِن قبلهم } يؤذن بأنهم مثلهم في العزة والشقاق ومتضمناً تحذيراً من التريث عن إجابة دعوة الحق، أي ينزل بهم العذاب فلا ينفعهم ندم ولا متاب كما لم ينفع القرون من قبلهم. فالتقدير سيجازَوْن على عزتهم وشقاقهم بالهلاك كما جُوزِيَتْ أمم كثيرة من قبلهم في ذلك فليحذروا ذلك فإنهم إن حقت عليهم كلمة العذاب لم ينفعهم متاب كما لم ينفع الذين من قبلهم متاب عند رؤية العذاب. و { كم } اسم دال على عدد كثير. و { مِن قَرنٍ } تمييز لإِبهام العدد، أي عدداً كثيراً من القرون، وهي في موضع نصب بالمفعولية لــــ { أهْلَكنا }.والقرن الأمة كما في قوله تعالىثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين } المؤمنون42. و { من قبلهم } يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً جعل صفة لــــ { قَرْنٍ } مقدمة عليه فوقعت حالاً، وإنما قدم للاهتمام بمضمونه ليفيد الاهتمامُ إيماء إلى أنهم أسوة لهم في العِزّة والشقاق وأن ذلك سبب إهلاكهم. ويجوز أن يكون متعلقاً بــــ { أهلكنا } على أنه ظرف لغو، وقدم على مفعول فعله مع أن المفعول أولى بالسبق من بقية معمولات الفعل ليكون تقديمه اهتماماً به إيماء إلى الإِهلاك كما في الوجه الأول.وفرع على الإِهلاك أنهم نادوا فلم ينفعهم نداؤهم، تحذيراً من أن يقع هؤلاء في مثل ما وقعت فيه القرون من قبلهم إذ أضاعوا الفرصة فنادوا بعد فواتها فلم يفدهم نداؤهم ولا دعاؤهم. والمراد بالنداء في { فنَادوا } نداؤهم الله تعالى تَضرعاً، وهو الدعاء كما حكي عنهم في قوله تعالىربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } الدخان12. وقولهحتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون } المؤمنون64.وجملة { ولاَتَ حينَ منَاصٍ } في موضع الحال، والواو واو الحال، أي نادوا في حال لا حين مناص لهم.و { لات } حرف نفي بمعنى لا المشبهة بــــ ليس و { لات } حرف مختص بنفي أسماء الأزمان وما يتضمن معنى الزمان من إشارة ونحوها. وهي مركبة من لا النافية وصُلت بها تاء زائدة لا تفيد تأنيثاً لأنها ليست هاء وإنما هي كزيادة التاء في قولهم رُبَّت وثُمَّت. والنفي بها لغير الزمان ونحوه خطَأ في اللغة وقع فيه أبو الطيب إذ قال
لقد تَصبرت حتى لاتَ مصطبَر والآن أقحم حتى لات مقتحم   
وأغفل شارحو ديوانه كلُّهم وقد أدخل { لات على غير اسم زمان. وأيًّا مَّا كان فقد صارت لا بلزوم زيادة التاء في آخرها حرفاً مستقلاً خاصاً بنفي أسماء الزمان فخرجت عن نحو رُبَّت وثَمَّتَ.

السابقالتالي
2