الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ }

لما جرى في خطاب داود ذكرُ نسيان يوم الحساب وكان أقصى غايات ذلك النسيان جحودُ وقوعه لأنه يفضي إلى عدم مراعاته ومراقبته أبداً اعتُرِض بين القصتين بثلاث آيات لبيان حكمة الله تعالى في جعل الجزاء ويومه احتجاجاً على منكريه من المشركين. والباطل ضد الحق، فكل ما كان غير حقّ فهو الباطل، ولذلك قال تعالى في الآية الأخرىما خلقناهما إلا بالحق } الدخان 39.والمراد بالحقّ المأخوذِ من نفي الباطل هنا، هو أن تلك المخلوقات خلقت على حالة لا تخرج عن الحق إمّا حَالاً كخلق الملائكة والرسل والصالحين، وإمّا في المآل كخلق الشياطين والمفسدين لأن إقامة الجزاء عليهم من بعد استدراك لمقتضى الحق. وقد بنيت هذه الحجة على الاستدلال بأحوال المشاهدات وهي أحوال السماوات والأرض وما بينهما، والمشركون يعلمون أن الله هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، فأقيم الدليل على أساس مقدمة لا نزاع فيها، وهي أن الله خلق ذلك وأنهم إذا تأملوا أدنى تأمل وجدوا من نظام هذه العوالم دلالةً تحصل بأدنى نظر على أنه نظام على غاية الإِحكام إحكاماً مطرداً، وهو ما نبههم الله إليه بقوله { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً }.ومصب النفي الحالُ وهو قوله { باطِلاً } فهو عام لوقوعه في سياق النفي، وبعد النظر يعلم الناظر أن خالقها حكيم عادل وأن تصرفات الفاعل يستدل بالظاهرِ منها على الخَفي، فكان حقاً على الذين اعتادوا بتحكيم المشاهدات وعدم تجاوزها أن ينظروا بقياس من خفي عنهم على ما هو مشاهد لهم، فلما استقرّ أن نظام السماء والأرض وما بينهما كان جارياً على مقتضى الحكمة وكامل النظام، فعليهم أن يتدبّروا فيما خفي عنهم من وقوع البعث والجزاء فإن جميع ما في الأرض جارٍ على نظام بديع إلا أعمال الإِنسان، فمن المعلوم بالمشاهدة أن من الناس صالحين نافعين، ومنهم دون ذلك إلى صنف المجرمين المفسدين، وإن من الصالحين كثيراً لم ينالوا من حظوظ الخيرات الدنيوية شيئاً أو إلاّ شيئاً قليلاً هو أقلّ مما يستحقه صلاحه وما جاهده من الارتقاء بنفسه إلى معارج الكمال. ومن المفسدين من هم بعكس ذلك.والفساد اختلال اجتلبه الإِنسان إلى نفسه باتِّباعه شهواته باختياره الذي أودعه الله فيه، وبقواه الباطنية قال تعالىلقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } التين 4 - 6 وفي هذه المراتب يدنو الناس دُنُوّاً متدرّجاً إلى مراتب الملائكة أو دُنُوًّا متدلِّياً إلى أحضية الشياطين فكانت الحكمة الإِلٰهية تقتضي أن يلتحق كل فريق بأشباهه في النعيم الأبدي أو الجحيم السرمدي.ولولا أن حكمة نظام خلق العوالم اقتضت أن يُـحال بين العوالم الزائلة والعوالم السرمدية في المدة المقدرة لبقاء هذه الأخيرة لأطار الله الصالحين إلى أوج النعيم الخالد، ولَدَسّ المجرمين في دركات السعير المؤبد، لعلل كثيرة اقتضت ذلك جُماعها رْعيُ الإِبقاء على خصائص المخلوقات حتى تؤدي وظائفها التي خلقت لها، وهي خصائص قد تتعارض فلو أوثر بعضها على غيره بالإِبقاء لأفضى إلى زوال الآخر، فمكّن الله كل نوع وكل صنف من الكدَح لنوال ملائمه وأرشد الجميع إلى الخير وأمر ونهى وبيّن وحدد.

السابقالتالي
2