الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ }

مقول قول محذوف معطوف علىفغفرنا له ذلك } ص25 أي صفَحنا عنه وذكرناه بنعمة المُلك ووعظناه، فجمع له بهذا تنويهاً بشأنه وإرشاداً للواجب. وافتتاح الخطاب بالنداء لاسترعاء وَعْيه واهتمامه بما سيقال له. والخليفة الذي يخلف غيره في عملٍ، أي يقوم مقامه فيه، فإن كان مع وجود المخلوف عنه قيل هو خليفة فُلان، وإن كان بعدما مضى المخلوف قيل هو خليفة مِن فلان. والمراد هنا المعنى الأول بقرينة قوله { فاحكم بين الناس بالحق }. فالمعنى أنه خليفة الله في إنفاذ شرائعه للأمة المجعول لها خليفة مما يوحي به إليه ومما سبق من الشريعة التي أوحي إليه العمل بها. وخليفةٌ عن موسى عليه السلام وعن أحبار بني إسرائيل الأولين المدعوين بالقُضاة، أو خليفة عمن تقدمه في الملك وهو شاول. و { الأرض } أرض مملكته المعهودة، أي جعلناك خليفة في أرض إسرائيل. ويجوز أن يجعل الأرض مراداً به جميع الأرض فإن داود كان في زمنه أعظم ملوك الأرض فهو متصرف في مملكته ويَخاف بأسَه ملوكُ الأرض فهو خليفة الله في الأرض إذ لا ينفلت شيء من قبضته، وهذا قريب من الخلافة في قوله تعالىثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } يونس 14 وقولهويجعلكم خلفاء الأرض } النمل 62.وهذا المعنى خلاف معنى قوله تعالىوإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } البقرة 30 فإن الأرض هنالك هي هذه الكرة الأرضية. قال ابن عطية ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله صلى الله عليه وسلم وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفةُ الذي قبلَه، ألاَ ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرّروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة رسول الله، وبهذا كان يدعى بذلك مدة حياته، فلما ولي عمر قالوا يا خليفةَ خليفة رسول الله فطال ورأوْا أنه سيطول أكثر في المستقبل إذا ولي خليفة بعد عمر فدعوا عُمر أميرَ المؤمنين، وقصر هذا على الخلفاء، وما يجيء في الشعر من دعاء أحد الخلفاء خليفة الله فذلك تجوّز كما قال ابنُ قيسِ الرقياتِ
خليفة الله في بريته جَفَّت بذاك الأقلام والكتب   
وفُرع على جعله خليفة أمرُه بأن يحكم بين الناس بالحق للدلالة على أن ذلك واجبه وأنه أحق الناس بالحكم بالعدل، ذلك لأنه هو المرجع للمظلومين والذي تُرفع إليه مظالم الظلمة من الولاة فإذا كان عادلاً خشيهُ الولاة والأمراء لأنه ألف العدل وكره الظلم فلا يُقر ما يجري منه في رعيته كلما بلغه فيكون الناس في حذر من أن يصدر عنهم ما عسى أن يرفع إلى الخليفة فيقتص من الظالم، وأمّا إن كان الخليفة يظلم في حكمه فإنه يألف الظلم فلا يُغضبه إذا رفعت إليه مظلمة شخص ولا يحرص على إنصاف المظلوم.

السابقالتالي
2 3