الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } * { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ }

أي علم داود بعد انتهاء الخصومة أن الله جعلها له فتنة ليشعره بحال فعلته مع أُوريا وقد أشعره بذلك ما دلّه عليه انصراف الخصمين بصورة غير معتادة، فعلم أنهما ملَكان وأن الخصومة صورية فعلم أن الله بعثهما إليه عَتْباً له على متابعة نفسه زوجةَ أوريا وطلبه التنازل عنها. وعبر عن علمه ذلك بالظن لأنه علم نظري اكتسبه بالتوسم في حال الحادثة وكثيراً ما يعبر عن العلم النظري بالظن لمشابهته الظن من حيث إنه لا يخلو من تردد في أول النظر. و { أنما } مفتوحة الهمزة أخت إنما تفيد الحصر، أي ظنّ أن الخصومة ليست إلاّ فتنة له، أو ظن أن ما صدر منه في تزوج امرأة أوريا ليس إلا فتنة. ومعنى { فتنَّاهُ } قدّرنا له فتنة، فيجوز أن تكون الفتنة بالمعنى المشهور في تدبير الحيلة لقتل أوريا فعبر عنها بالفتنة لأنها أورثت داود مخالفةً للأليق به من صرف نفسه عن شيء غيره، وعدم متابعته ميله النفساني وإن كان في دائرة المباح في دينهم، فيكون المعنى وعلم أن ما صدر منه فتنة من النفس. وإنما علم ذلك بعد أن أحسّ من نفسه كراهية مثلها مما صوره له الخصمان.ويجوز أن يكون الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار، كقوله تعالى لموسىوفتناك فتوناً } طه 40، أي ظن أنا اختبرنا زكانته بإرسال الملكين، يصور أن له صورةً شبيهةً بفعله ففطن أن ما فعله أمر غير لائق به. وتفريع { فاستغفر ربَّهُ } على ذلك الظنّ ظاهر على كلا الاحتمالين، أي لما علم ذلك طلب الغفران من ربه لِما صنع.وخرّ خروراً سقط، وقد تقدم في قوله تعالىفخر عليهم السقف من فوقهم } في سورة النحل 26. والركوع الانحناء بقصد التعظيم دون وصول إلى الأرض قال تعالىتراهم ركعاً سجداً } الفتح 29، فذكر شيئين. قالوا لم يكن لبني إسرائيل سجود على الأرض وكان لهم الركوع، وعليه فتقييد فعل { خرّ } بحال { رَاكِعاً } تمَجَّز في فعل { خرّ } بعلاقة المشابهة تنبيهاً على شدة الانحناء حتى قارب الخرور. ومن قال كان لهم السجود جعل إطلاق الرجوع عليه مجازاً بعلاقة الإِطلاق. وقال ابن العربي لا خلاف في أن الركوع هاهنا السجود، قلت الخلافُ موجود.والمعروف أنه ليس لبني إسرائيل سجود بالجبهة على الأرض، ويحتمل أن يكون السجود عبادة الأنبياء كشأن كثير من شرائع الإِسلام كانت خاصة بالأنبياء من قبل كما تقدم في قوله تعالىفلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } البقرة 132، وتقدم قوله تعالىوخروا له سجداً } في سورة يوسف 100. وكان ركوع داود عليه السلام تضرعاً لله تعالى ليقبل استغفاره.والإِنابة التوبة يقال أناب، ويقال نَاب. وتقدم عند قوله تعالىإن إبراهيم لحليم أوّاه منيب } في سورة هود 75. وعند قوله

السابقالتالي
2