الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ }

يجوز أن يكون استئنافاً يتصل بقولهكمْ أهلكنا من قبلهم من قَرنٍ } ص3 الآية أريد به وصل الكلام السابق فإنه تقدم قولهبل الذين كفروا في عزَّةٍ وشقاقٍ } ص2 وتلاه قوله { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } الآية. فلما تقضى الكلام على تفصيل ما للذين كفروا من عزة وشقاق وما لذلك من الآثار ثُني العِنان إلى تفصيل مَا أَهلَك من القرون أمثالهم من قبلهم في الكفر ليفضي به إلى قولهكذبت قبلهم قوم نوح } ص12 إلى قولهفحَقَّ عِقَابِ } ص14.فتكون جملة { كذبت قبلهم قومُ نوح } بدلاً من جملة { جندٌ ما هنالِكَ مهزومٌ من الأحزابِ } بدلَ بعض من كلّ. ويجوز أن يَكون استئنافاً ابتدائياً مستقلاً خارجاً مخرج البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء جند من الأحزاب مهزوم، أي مقدّر انهزامه في القريب، وهذه البشارة معجزة من الإِخبار بالغيب ختم بها وصف أحوالهم. قال قتادة وعد الله أنه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأويلها يوم بدر. وقال الفخر إشارة إلى فتح مكة. وقال بعض المفسرين إشارة إلى نصر يوم الخندق.وعادة الأخبار الجارية مجرى البشارة أو النذارة بأمر مغيب أن تكون مرموزة، والرمز في هذه البشارة هو اسم الإِشارة من قوله { هُنَالِكَ } فإنه ليس في الكلام ما يصلح لأن يشار إليه بدون تأوُّل فلْنجعله إشارة إلى مكان أَطْلَع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مكان بدر. ويجوز أن يكون لفظ { الأحزابِ } في هذه الآية إشارة خفية إلى انهزام الأحزاب أيام الخندق فإنها عرفت بغزوة الأحزاب. وسمّاهم الله { الأحزابِ } في السورة التي نزلت فيهم، فتكون تلك التسمية إلهاماً كما ألهم الله المسلمين فسمَّوا حَجَّة النبي صلى الله عليه وسلم حجَّة الوَداع وهو يومئذٍ بينهم سليم المزاج، وهذا في عداد المعجزات الخفية التي جمعنا طائفة منها في كتاب خاص. ولعل اختيار اسم الإشارة البعيد رمزٌ إلى أن هذا الانهزام سيكون في مكان بعيد غير مكة فلا تكون الآية مشيرة إلى فتح مكة لأن ذلك الفتح لم يقع فيه عذاب للمكذبين بل عفا الله عنهم وكانوا الطلقاء.وهذه الإِشارة قد علمها النبي صلى الله عليه وسلم وهي من الأسرار التي بينه وبين ربه حتى كان المستقبل تأويلَها كما علم يعقوب سرَّ رؤيا ابنه يوسف، فقال لهلا تقصص رؤياك على إخوتك } يوسف5. ولم يعلَم يوسف تأويلها إلا يوم قاليا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبلُ قد جعلها ربي حقّاً } يوسف100 يشير إلى سجود أبويه له.وأما ظاهر الآية الذي تلقاه الناس يوم نزولها فهو أن الجند هم كفار أهل مكة وأن التنوين فيه للنوعية، أي ما هم إلا جند من الجنود الذين كذبوا فأُهلكوا، وأن الإِشارة بــــ { هُنَالِكَ } إلى مكان اعتباري وهو ما هم فيه من الرفعة الدنيوية العرفية وأَن الانهزام مستعار لإِضعاف شوكتهم، وعلى التفسيرين الظاهر والمؤول لا تعدو الآية أن تكون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له وبشارة بأن دينه سيظهر عليهم.

السابقالتالي
2