الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ } * { وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ }

هذه الجملة تتنزل من جملةرَبُّ السمٰوٰتِ والأرض وما بينهما } الصافات 5 منزلة الدليل على أنه رب السماوات. واقتصر على ربوبية السماوات لأن ثبوتها يقتضي ربوبية الأرض بطريق الأوْلى. وأدمج فيها منة على الناس بأن جعل لهم في السماء زينة الكواكب تروق أنظارهم فإن محاسن المناظر لذّة للناظرين قال تعالىولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } النحل6، ومنة على المسلمين بأن جعل في تلك الكواكب حفظاً من تلقّي الشياطين للسمع فيما قضى الله أمره في العالم العلوي لقطع سبيل اطلاع الكهان على بعض ما سيحدث في الأرض فلا يفتنوا الناس في الإِسلام كما فتنوهم في الجاهلية، وليكون ذلك تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم بأن قطعت الكهانة عند إرساله وللإِشارة إلى أن فيها منفعة عظيمة دينية وهي قطع دابر الشك في الوحي، كما أن فيها منفعة دنيوية وهي للزينة والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر.و { الكواكب } الكريات السماوية التي تلمع في الليل عَدا الشمس والقمر. وتسمى النجوم، وهي أقسام منها العظيم، ومنها دونه، فمنها الكواكب السيارة، ومنها الثوابت، ومنها قِطع تدور حول الشمس. وفي الكواكب حِكم منها أن تكون زينة للسماء في الليل فالكواكب هي التي بها زينت السماء. فإضافة { زينة } إلى { الكواكِبِ } إن جعلتَ { زينة } مصدراً بوزن فِعلة مثل نِسبة كانت من إضافة المصدر إلى فاعله، أي زانتها الكواكب أو إلى المفعول، أي بزينة الله الكواكب، أي جعلها زَيْناً. وإن جعلتَ { زينة } اسماً لما يتزين به مثل قولنا لِيقة لما تُلاق به الدَّواة، فالإِضافة حقيقية على معنى «من» الابتدائية، أي زينة حاصلة من الكواكب. وأَيًّا مَّا كان فإقحام لفظ { زينة } تأكيد، والباء للسببية، أي زيَّنا السماء بسبب زينة الكواكب فكأنه قيل إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب تزييناً فكان { بزِينةٍ الكواكب } في قوّة بالكواكب تزيينا، فقوله { بِزينَةٍ } مصدر مؤكد لفعل { زَيَّنَّا } في المعنى ولكنْ حُوّل التعليق فجعل { زينة } هو المتعلق بــــ { زَيَّنَّا } ليفيد معنى التعليل ومعنى الإِضافة في تركيب واحد على طريقة الإِيجاز، لأنه قد علم أن الكواكب زينة من تعليقه بفعل { زيَّنَّا } من غير حاجة إلى إعادة { زينة } لولا ما قصد من معنى التعليل والتوكيد.و { الدنيا } أصله وصف هو مؤنث الأدنى، أي القربى. والمراد قربها من الأرض، أي السماء الأولى من السماوات السبع.ووصفها بالدنيا إمَّا لأنها أدنى إلى الأرض من بقية السماوات، والسماء الدنيا على هذا هي الكرة التي تحيط بكرة الهواء الأرضية وهي ذات أبعاد عظيمة. ومعنى تزيينها بالكواكب والشهب على هذا أن الله جعل الكواكب والشهب سابحة في مقعّر تلك الكرة على أبعاد مختلفة ووراء تلك الكرة السماوات السبع محيط بعضها ببعض في أبعاد لا يعلم مقدار سعتها إلا الله تعالى.

السابقالتالي
2 3