الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا } * { فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً } * { فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكْراً } * { إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ }

القسم لتأكيد الخبر مَزيدَ تأكيد لأنه مقتضى إنكارهم الوحدانية، وهو قسم واحد والمقسم به نوع واحد مختَلف الأصناف، وهو طوائف من الملائكة كما يقتضيه قوله { فالتَّالِيَاتِ ذِكْراً }.وعطف «الصِّفات» بالفاء يقتضي أن تلك الصفات ثابتة لموصوف واحد باعتبار جهة ترجع إليها وحدته، وهذا الموصوف هو هذه الطوائف من الملائكة فإن الشأن في عطف الأوصاف أن تكون جارية على موصوف واحد لأن الأصل في العطف بالفاء اتصال المتعاطفات بها لما في الفاء من معنى التعقيب ولذلك يعطفون بها أسماء الأماكن المتصلِ بعضها ببعض كقول امرىء القيس
بِسِقط اللِّوَى بين الدَّخول فَحَوْمَل فتُوضِحَ فالمقرةِ... البيت   
وكقول لبيد
بمشارق الجبليين أو بمحجر فتضمنتها فَردَه فمرخاها فصدائق إن أيْمَنت فمظنة ............ البيت   
ويعطفون بها صفاتِ موصوف واحد كقول ابن زيَّابة
يا لهف زيَّابة للحارث الــــ ــــصابح فالغَانم فالآيب   
يريد صفات للحارث، ووصفه بها تهكماً به.فعن جماعة من السلف أن هذه الصفات للملائكة. وعن قتادة أن «التاليات ذكراً» الجماعة الذين يتلون كتاب الله من المسلمين. وقسَمُ الله بمخلوقاته يُومىء إلى التنويه بشأن المقسم به من حيث هو دَالّ على عظيم قدرة الخالق أو كونه مشرّفاً عند الله تعالى.وتأنيث هذه الصفات باعتبار إجرَائها على معنى الطائفة والجماعة ليدل على أن المراد أصناف من الملائكة لا آحادٌ منهم.و { الصافات } جمع صافة، وهي الطائفة المصطفّ بعضها مع بعض. يقال صف الأمير الجيش، متعدياً إذا جعله صفاً واحداً أو صفوفاً، فاصطفوا. ويقال فَصَفُّوا، أي صاروا مصطفِّين، فهو قاصر. وهذا من المطاوع الذي جاء على وزن فعله مثل قول العجاج
قد جَبر الدينَ الإِله فجَبَر   
وتقدم قولهفاذكروا اسم اللَّه عليها صَوافّ } في سورة الحج 36، وقولهوالطير صافات } النور 41. ووصف الملائكة بهذا الوصف يجوز أن يكون على حقيقته فتكون الملائكة في العالم العلوي مصطفّة صفوفاً، وهي صفوف متقدم بعضها على بعض باعتبار مراتب الملائكة في الفضل والقرب. ويجوز أن يكون كناية عن الاستعداد لامتثال ما يلقى إليهم من أمر الله تعالى قال تعالى، حكاية عنهم في هذه السورةوإنَّا لنحن الصَّافونَ وإنَّا لنحنُ المُسَبِحُونَ } الصافات 166،165. والزجرُ الحث في نهي أو أمر بحيث لا يُترك للمأمور تباطؤ في الإِتيان بالمطلوب، والمراد به تسخير الملائكة المخلوقاتِ التي أمرهم الله بتسخيرها خلقاً أو فعلاً، كتكوين العناصر، وتصريف الرياح، وإزجاء السحاب إلى الآفاق.و «التاليات ذكراً» المترددون لكلام الله تعالى الذي يتلقونه من جانب القدس لتبليغ بعضهم بعضاً أو لتبليغه إلى الرسل كما أشار إليه قوله تعالىحتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } سبأ23. وبيّنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قضى الله الأمر في السماء ضَربت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنَّه سلسلة على صفوان فإذا فُزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الذي قال الحق "

السابقالتالي
2