الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ }

عطف على جملةليقُولونَ } الصافات 151 أي شفَّعوا قولهم { ولَدَ الله } الصافات 152، فجعلوا بين الله وبين الجنّ نسباً بتلك الولادة، أي بينوا كيف حصلت تلك الولادة بأن جعلوها بين الله تعالى وبين الجنة نسباً.و { الجنّة } الجماعة من الجن، فتأنيث اللفظ بتأويل الجماعة مثل تأنيث رَجْلَة، الطائفة من الرجال، ذلك لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله من سَروات الجن، أي من فريقِ نساء من الجن من أشراف الجن، وتقدم في قوله تعالىأولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنة } في سورة الأعراف 184. والنسب القرابة العَمودية أو الأُفقية أي من الأطراف والكلام على حذف مضاف، أي ذوي نسب لله تعالى وهو نسب النبوءة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى، أي جعلوا لله تعالى نسباً للجِنّة وللجنة نسباً لله. وقوله { بينه وبين الجِنَّة } يجوز أن يكون حالاً من { نَسَباً } أي كائناً بينه وبين الجنة، أي أن نسبه تعالى، أي نسله سبحانه ناشىء من بينه وبين الجن. ويجوز أن يكون متعلقاً بــــ { جعلوا } ، أي جعلوا في الاقتران بينه وبين الجن نسباً له، أي جعلوا من ذلك نسباً يتولد له، فقوله { بينه وبين الجنة نسباً } هو كقولك بين فلان وفلانة بنُون، أي له منها ولها منه بنون، وهذا المعنى هو مراد من فسره بأن جعلوا الجن أصهاراً لله تعالى، فتفسيره النسب بالمصاهرة تفسير بالمعنى وليس المراد أن النسب يطلق على المصاهرة كما توهمه كثير، لأن هذا الإِطلاق غير موجود في دواوين اللغة فلا تغتررْ به. ولعدم الغوص في معنى الآية ذهب من ذهب إلى أن المراد بالجنة الملائكة، أي جعلوا بين الله وبين الملائكة نسب الأبوّة والبنوّة، وهذا تفسير فاسد لأنه يصير قوله { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } إعادةً لما تقدم من قولهألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله } الصافات 151 - 152 ومن قولهأم خلقنا الملائِكَة إناثا وهم شاهِدونَ } الصافات150. ومن ذهب إلى أن المراد من { الجِنَّةِ } أصل الجِنّة وهو الشيطان وأن معنى الآية أنهم جعلوا الله نسيباً للشيطان نسب الأخوة، تعالى الله عن ذلك. على أنه إشارة إلى قول الثَّنَوية من المجوس بوجود إلٰه للخير هو الله، وإلٰه للشر هو الشيطان وهم من ملل مجوس فارس وسموا إلٰه الخير يَزْدَانَ وإلٰه الشر أَهْرُمُنْ وقالوا كان إلٰه الخير وحده فخطر له خاطر في نفسه من الشر فنشأ منه إلٰه الشر هو أهرمُن وهو ما نعاه المعري عليهم بقوله
قال أناسٌ باطلٌ زعمهم فراقبوا الله ولا تزعُمُنْ فَكَّر يزدانُ على غِرة فصيغ من تفكيره أهرمُن   
وهذا الدين كان معروفاً عند بعض العرب في الجاهلية من عرب العراق المجاورين لبلاد فارس والخاضعين لسلطانهم ولم يكن معروفاً بين أهل مكة المخاطبين بهذه الآيات، ولأن الجِنّة لا يشمل الشياطين إذا أطلق فإن الشيطان كان من الجن إلا أنه تميز به صنف خاص منهم.

السابقالتالي
2