الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } * { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } * { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ }

{ بَلْ } للإِضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب.وقرأ الجمهور { بَلْ عَجِبْتَ } بفتح التاء للخطاب. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم المخاطبِ بقولهفَاستَفْتِهِم } الصافات11. وفعل المضيّ مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو بِعت. والمعنى اعجَبْ لهم. ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إعْراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملاً في حقيقته. ويجوز أن يكون الكلام على تقدير همزة الاستفهام، أي بل أعجبت.والمعنى على الجميع أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالىوإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد } في سورة الرعد 5.وقرأ حمزة والكسائي وخلف { بَلْ عَجِبْتُ } بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد أن الله أسند العجب إلى نفسه. ويُعرَف أنه ليس المراد حقيقةَ العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه، وهو استعظام الأمر المتعجب منه. وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليعجب من رجلين يَقتُل أحدهُما الآخرَ يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد " رواه النسائي بهذا اللفظ. يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافراً فيقاتل فيستشهد في سبيل الله.وقولُه في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلاً فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما «عجِب الله من فعالكما».ونزل فيهويؤثرون على أنفسهم } الحشر 9. وقوله «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل». وإنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح، والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله { عَجِبْتُ } ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث. ويجوز أن يكون أطلق { عجبت } على معنى المجازاة على عَجبهم لأن قولهفاستفتهم أهم أشدُّ خلقاً } الصافات11 دلّ على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عَجبهم. وأطلق على ذلك العقاب فعل { عجبت } كما أطلق على عقاب مكرهم المكرُ في قولهومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } آل عمران 54.والواو في { ويَسْخَرُونَ } واو الحال، والجملة في موضع الحال من ضمير { عَجِبْتَ } أي كان أمرهم عجباً في حال استسخارهم بك في استفتائهم. وجيء بالمضارع في { يسخرون } لإِفادة تجدد السخرية، وأنهم لا يرعوُون عنها.والسخرية الاستهزاء، وتقدمت في قوله تعالىفحاق بالذين سخروا منهم } في سورة الأنعام 10. والتذكير بأن يذكروا ما يغفلون عنه من قدرة الله تعالى عليهم، ومن تنظير حالهم بحال الأمم التي استأصلها الله تعالى فلا يتعظوا بذلك عناداً فأطلق { لاَ يَذْكُرُونَ } على أثر الفعل، أي لا يحصل فيهم أَثَر تذكُّر ما يذكَّرون به وإن كانوا قد ذَكروا ذلك.

السابقالتالي
2