الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ }

هذه بشارة أخرى لإِبراهيم ومكرمة له، وهي غير البشارة بالغلام الحليم، فإسحاق غير الغلام الحليم. وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالىفبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } هود 71. وتسمية المبشَّر به إسحاقَ تحتمل أن الله عيّن له اسماً يسمّيه به وهو مقتضى ما في الإصحاح السابع عشر من «سفر التكوين» «سارة امرأتك تلِد ابناً وتدعو اسمه إسحاق».وتحتمل أن المراد بشرناه بولدٍ الذي سمي إسحاق، وهو على الاحتمالين إشارة إلى أن الغلام المبشر به في الآية قبل هذه ليس هو الذي اسمه إسحاق فتعين أنه الذي سُمي إسماعيل. ومعنى البشارة به البشارة بولادته له لأنّ البشارة لا تتعلق بالذوات بل تتعلق بالمعاني.وانتصب { نبيئاً } على الحال من { إسحٰق } ، فيجوز أن يكون حكاية للبشارة فيكون الحال حالاً مقدّراً لأن اتصاف إسحاق بالنبوءة بعد زمن البشارة بمدة طويلة بل هو لم يكن موجوداً، فالمعنى وبشَّرناه بولادة ولد اسمه إسحاق مقدراً حالُه أنه نبي، وعدم وجود صاحب الحال في وقت الوصف بالحال لا ينافي اتصافه بالحال على تقدير وجوده لأن وجود صاحب الحال غير شرط في وصفه بالحال بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به مع اعتبار معنى الحال لأن غايته أنه من استعمال اسم الفاعل في زمان الاستقبال بالقرينة ولا تكون الحال المقدرة إلا كذلك، وطول زمان الاستقبال لا يتحدد، ومنه ما تقدم في قوله تعالىويأتينا فرداً } في سورة مريم 80. واعلم أن معنى الحال المقدرة أنها مقدّر حصولها غير حاصلة الآن والمقدِّر هو الناطق بها، وهي وصف لصاحبها في المستقبل وقيد لعاملها كيفما كان، فلا تحتفل بما أطال به في «الكشاف» ولا بمخالفة البيضاوي له ولا بما تفرع على ذلك من المباحثات. وإن كان وضعاً معترضاً في أثناء القصة كان تنويهاً بإسحاق وكان حالاً حاصلة.وقوله { مِن الصالِحين } حال ثانية، وذكرها للتنويه بشأن الصلاح فإن الأنبياء معدودون في زمرة أهله وإلا فإن كل نبيء لا بدّ أن يكون صالحاً، والنبوءة أعظم أحوال الصلاح لما معها من العظمة.وبارك جعله ذا بركة والبركة زيادة الخير في مختلف وجوهه، وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالىإن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في سورة آل عمران 96. وقولهوبركات عليك } في سورة هود 48. و { على } للاستعلاء المجازي، أي تمكُّن البركةِ من الإِحاطة بهما.ولما ذكر ما أعطاهما نقل الكلام إلى ذريتهما فقال { ومن ذُريتهما مُحسنٌ } ، أي عامل بالعمل الحسن، { وظالِمٌ لنفسهِ } أي مشرك غير مستقيم للإِشارة إلى أن ذريتهما ليس جميعها كحالهما بل هم مختلفون فمن ذرية إبراهيم أنبياء وصالحون ومؤمنون ومن ذرية إسحاق مثلهم، ومن ذرية إبراهيم من حادوا عن سنن أبيهم مثل مشركي العرب، ومن ذرية إسحاق كذلك مثل من كفر من اليهود بالمسيح وبمحمد صلّى الله عليهما، ونظيره قوله تعالى

السابقالتالي
2