الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ }

الفاء تفريع على قولهإنَّا زيَّنا السَّماء الدنيا بزينةٍ الكواكب } الصافات6 باعتبار ما يقتضيه من عظيم القدرة على الإِنشاء، أي فسَلْهُم عن إنكارهم البعث وإحالتِهم إعادةَ خلقهم بعد أن يصيروا عظاماً ورفاتاً، أخَلْقُهم حينئذٍ أشدّ علينا أم خلق تلك المخلوقات العظيمة؟وضمير الغيبة في قوله { فَاستفتِهِم } عائد إلى غير مذكور للعلم به من دلالة المقام وهم الذين أحالوا إعادة الخلق بعد الممات. وكذلك ضمائر الغيبة الآتية بعده وضمير الخطاب منه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي فسَلْهم، وهو سؤال محاجة وتغليط.والاستفتاء طلب الفَتوى بفتح الفاء وبالواو، ويقال الفُتْيَا بضم الفاء وبالياء. وهي إخبار عن أمر يخفَى عن غير الخواصّ في غرض مَّا. وهيإمّا إخبار عن علم مختص به المخبِر قال تعالىيوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات } يوسف46 الآية، وقاليستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } النساء176، وتقدم في قولهالذي فيه تستفتيان } في سورة يوسف 41.وإمَّا إخبار عن رأي يطلب من ذي رأي موثوق به ومنه قوله تعالىقالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } في سورة النمل 32. والمعنى فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسؤول عنه أمراً محتاجاً إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء. وهمزة { أهُم أشدُّ خَلْقاً } للاستفهام المستعمل للتقرير بضعف خلق البشر بالنسبة للمخلوقات السماوية لأن الاستفهام يؤول إلى الإقرار حيث إنه يُلجىء المستفهم إلى الإِقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام، فالاستفتاء في معنى الاستفهام فهو يستعمل في كل ما يستعمل فيه الاستفهام. و { أشدّ } بمعنى أصعب وأعسر.و { خَلْقاً } تمييز، أي أخلقهم أشدّ أم خَلْق من خلقنا الذي سمعتم وصفه.والمراد بــــ { مَن خَلَقْنا } ما خَلَقَه الله من السماوات والأرض وما بينهما الشامل للملائكة والشياطين والكواكب المذكورة آنفاً بقرينة إيراد فاء التعقيب بعد ذكر ذلك، وهذا كقوله تعالىأأنتم أشد خلقاً أم السماء } النازعات27 ونحوه.وجيء باسم العاقل وهو { مَن } الموصولة تغليباً للعاقلين من المخلوقات.وجملة { إنا خلقناهم من طين لازب } في موضع العلة لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله { أهم أشد خلقاً أم من خلقنا } من الإِقرار بأنهم أضعف خلقاً من خلق السماوات وعوالمها احتجاجاً عليهم بأن تأتِّي خلقهم بعد الفناء أهون من تَأتي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفاً ولم تكن مخلوقة قبلُ فإنهم خلقوا من طين لأن أصلهم وهو آدم خلق من طين كما هو مقرر لدى جميع البشر فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم التي منها قولُهمأإذَا مِتنا وكنا تُراباً وعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثونَ } الصافات16. والطينُ التراب المخلوط بالماء.واللازب اللاصق بغيره ومنه أطلق على الأمر الواجب «لازب» في قول النابغة
ولا يحسبون الشر ضَربةَ لازب   
وقد قيل إن باء لازب بدل من ميم لازم، والمعنى أنه طين عتيق صار حَمْأة. وضمير { إنَّا خلقناهُم } عائد إلى المشركين وهو على حذف مضاف، أي خلقنا أصلهم وهو آدم فإنه الذي خلق من طين لازب، فإذا كان أصلهم قد أنشىء من تراب فكيف ينكرون إمكان إعادة كل آدمي من تراب.