الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } * { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }

هذه الآية ترجع إلى ما تضمنه قوله تعالىوما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } يس 46 فقد بيّنا أن المراد بالآيات آيات القرآن، فإعراضهم عن القرآن له أحوالٌ شتى بعضها بعدم الامتثال لما يأمرهم به من الخير مع الاستهزاء بالمسلمين وهو قوله تعالىوإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } يس 47 الآية، وبعضها بالتكذيب لما يُنذِرهم به من الجزاء، وهو قولهويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } يس 48. ومن إعراضهم عنه طعنُهم في آيات القرآن بأقوال شتّى منها قولهم هو قول شاعر، فلما تصدّى القرآن لإِبطال تكذيبهم بوعيد بالجزاء يوم الحشر بما تعاقب من الكلام على ذلك عاد هنا إلى طعنهم في ألفاظ القرآن من قولهمبل افتراه بل هو شاعر } الأنبياء 5، فقولهم { بل هو شاعر } يقتضي لا محالة أنهم يقولون القرآن شعر. فالجملة معطوفة على جملةويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } الأنبياء38، عطف القصة على القصة والغرضِ على الغرضِ. ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ويكون الواو للاستئناف، ولذلك اقتصر هنا على تنزيه القرآن عن أن يكون شعراً والنبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعراً دون التعرض لتنزيهه عن أن يكون ساحراً، أو أن يكون مجنوناً لأن الغَرض الرد على إعراضهم عن القرآن، ألا ترى أنه لما قصد إبطال مقالات لهم في القرآن قال في الآية الأخرىوما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون } الحاقة 41،42. وضمير { عَلَّمْناهُ } عائد إلى معلوم من مقام الردّ وليس عائداً إلى مذكور إذ لم يتقدم له معاد. وبني الرد عليهم على طريقة الكناية بنفي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الشعر لما في ذلك من إفادة أن القرآن معلَّم للنبي صلى الله عليه وسلم من قِبَل الله تعالى وأنه ليس بشعر وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر. وانتصب { الشّعْرَ } على أن مفعول ثاننٍ لفعل { عَلَّمْناهُ } ، وهذا الفعل من أفعال العلم، ومُجرَّدُه يتعدّى إلى مفعول واحد غالباً نحو عَلِم المسألةَ. ويتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فإذا دخله التضعيف صار متعدياً إلى مفعولين فقط اعتداداً بأن مجرده متعدّ إلى واحد كقوله تعالىوإذ علمتك الكتاب والحكمة } المائدة 110 في سورة العقود، وقوله { وما علَّمناهُ الشعر } في هذه السورة يس وهذه تفرقة في الاستعمال موكولة إلى اختيار أهل اللسان نبّه عليه الرضيّ في «شرح الكافية» في باب تعدية أفعال القلوب إلى مفعولين بأن أصله متعدّ إلى واحد. فتقدير المعنى نحن علمناه القرآن وما علمناه الشعر، فالقرآن موحىً إليه بتعليم من الله والذي أوحى به إليه ليس بشعر، وإذن فالمعنى أن القرآن ليس من الشعر في شيء، فكانت هاته الجملة ردّاً على قولهم هو شاعر على طريقة الكناية لأنها انتقال من اللازم إلى الملزوم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9