الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } * { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }

ذكر عقب استهزائهم بالمؤمنين لمّا منعوهم الإِنفاق بعلة أن الله لو شاء لأطعمهم استهزاء آخر بالمؤمنين في تهديدهم المشركين بعذاب يحلّ بهم فكانوا يسألونهم هذا الوعد استهزاء بهم بقرينة قوله { إن كنتم صادِقِينَ } ، فالاستفهام مستعمل كناية عن التهكم والتكذيب. وأطلق الوعد على الإِنذار والتهديد بالشر لأن الوعد أعمّ ويتعين للخير والشر بالقرينة. واسم الإِشارة للوعد مستعمل في الاستخفاف بوعد العذاب كما في قول قيس بن الخطيم
متى يأت هذا الموتُ لا يُلف حاجة لنفسي إلا قد قضيتُ قضاءها   
وإذا قد كان استهزاؤهم هذا يسوء المسلمين أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الوعد واقع لا محالة وأنهم ما ينتظرون إلا صيحة تأخذهم فلا يُفلتون من أخذتها. وفعل { يَنظُرُونَ } مشتق من النَّظِرة وهو الترقب، وتقدم في قوله تعالىهل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } في سورة الأنعام 158. والصيحة الصوت الشديد الخارج من حلق الإِنسان لزجر، أو استغاثة. وأطلقت الصيحة في مواضع في القرآن على صوت الصاعقة كما في قوله تعالى في شأن ثمودفأخذتهم الصيحة } الحجر 73. فالصيحة هنا تحتمل المجاز، أي ما ينتظرون إلا صعقة أو نفخة عظيمة. والمراد النفخة الأولى التي ينقضي بها نظام الحياة في هذا العالم، والأخرى تنشأ عنها النشأة الثانية وهي الحياة الأبدية، فيكون أسلوب الكلام خارجاً على الأسلوب الحكيم إعراضاً عن جوابهم لأنهم لم يقصدوا حَقيقة الاستفهام فأجيبوا بأن ما أعد لهم من العذاب هو الأجدر بأن ينتظروه. ومعنى { تأخُذُهُم } تُهلكهم فجأة، شبه حلول صيحة العقاب بحلول المُغِيرين على الحيّ لأخذ أنعامه وسَبْي نِسائه، فأطلق على ذلك الحلولِ فعل { تأخُذُهُم } كقوله تعالىفعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } الحاقة 10 أي تحلّ بهم وهم يختصمون. وإسناد الأخذ إلى الصيحة حقيقة عقلية لأنهم يهلكون بصعقتها. ويحتمل أن تكون الصيحة على حقيقتها وهي صيحة صائحين، أي ما ينتظرون إلا أن يصاح بهم صيحة تنذر بحلول القتل، فيكون إنذاراً بعذاب الدنيا. ولعلها صيحة الصارخ الذي جاءهم بخبر تعَرّض المسلمين لركب تجارة قريش في بدر. و { يَخصّمُونَ } من الخصومة والخصام وهو الجدال، وتقدم في قولهولا تكن للخائنين خصيماً } في سورة النساء 105، وقولههذان خصمان } في سورة الحج 19. وأصله يختصمون فوقع إبدالُ التاء صاداً لقرب مخرجيهما طلباً للتخفيف بالإِدغام. واختلَف القراء في كيفية النطق بها، فقرأه الجميع بفتح الياء واختلفوا فيما عدا ذلك فقرأ ورش عن نافع وابنُ كثير وأبو عمرو في رواية عنه { يَخصّمُونَ } بتشديد الصاد مكسورة على اعتبار التاء المبدلة صاداً والمسَكَّنةُ لأجل الإِدغام، ألقيت حركتُها على الخاء التي كانت ساكنة. وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو في المشهور عنه بسكون الخاء سكوناً مختلَساً بالفتح لأجل التخلص من التقاء الساكنين وبكسر الصاد مشدّدة.

السابقالتالي
2