الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }

لما جرى ذكر الشمس والقمر في معرض الآيات الدالة على انفراده تعالى بالخلق والتدبير وعلى صفات إلهيته التي من متعلِّقاتها تعلق صفة القدرة بآية الشمس وسيرها، والقمر وسيره، وقد سمّاها بعض المتكلمين صفات الأفعال وكان الناس يعرفون تقارب الشمس والقمر فيما يراه الراءون، وكانوا يقدرون سيرهما بأسمات معلَّمة بعلامات نجومية تسمى بُروجاً بالنسبة لسير الشمس، وتسمى منازل بالنسبة لسير القمر، وكانوا يعلمون شدة قرب المنازل القمرية من البروج الشمسية فإن كل برج تسامته منزلتان أو ثلاث منازل، وبعض نجوم المنازل هي أجزاء من نجوم البروج، زادهم الله عبرة وتعليماً بأن للشمس سيراً لا يلاقي سير القمر، وللقمر سيراً لا يلاقي سير الشمس ولا يمر أحدهما بطرائق مسير الآخر وأن ما يتراءى للناس من مشاهدة الشمس والقمر في جو واحد وفي حجمين متقاربين، وما يتراءى لهم من تقارب نجوم بروج الشمس ونجوم منازل القمر، إن هو إلا من تخيلات الأبصار وتفاوت المقادير بين الأجرام والأبعاد. فالكرة العظيمة كالشمس تبدو مقاربة لكرة القمر في المرأى وإنما ذلك من تباعد الأبعاد فأبعاد فلك الشمس تفوق أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقارباً لحجم القمر. فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما. فمعنى { لا الشَّمْسُ يَنْبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر } نفي انبغاء ذلك، أي نفي تأتِّيه، لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب، فانبغى يفيد أن الشيء طُلب فحصل للذي طَلبه، يقال بغاه فانبغَى له، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوباً، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور. يقال لا ينبغي لك كذا، ففرقٌ ما بين قولك ينبغي أن لا تفعل كذا، وبين قولك لا ينبغي لك أن تفعل كذا، قال تعالىقالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } الفرقان 18 وتقدم قوله تعالىوما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولداً } في سورة مريم 92، ومنه قوله تعالىوما علمناه الشعر وما ينبغي له } يس 69 في هذه السورة. والإِدراك اللحاق والوصول إلى البُغية فقوله { أن تُدرك } فاعل { يَنْبَغِي } فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمسِ القمرَ. والمعنى نفي أن تصطَدم الشمس بالقمر، خلافاً لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب. وصوغ هذا بصيغة الإِخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإِفادة تقوّي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر. وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقرراً في ذهن السامع أقوى مما لو قيل الشمسُ لا ينبغي لها أن تدرك القمر، فكان في قوله { لا الشَّمْسُ ينبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر } خُصوصيتان.

السابقالتالي
2