الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ }

هذه الجملة بيان لجملةما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } يس 30 لما فيها من تفصيل الإِجمال المستفاد من قوله { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } فإن عاقبة ذلك الاستهزاء بالرسول كانت هلاك المستهزئين، فعدمُ اعتبار كل أمة كذبت رسولها بعاقبة المكذبين قبلها يثير الحسرة عليها وعلى نظرائها كما أثارها استهزاؤهم بالرسول وقلة التبصر في دعوته ونذارته ودلائل صدقه. وضمير { يَرَوا } عائد إلى العباد كما يقتضيه تناسق الضمائر. والمعاد فيه عموم ادعائي كما تقدم آنفاً، فيتعين أن تخص منه أول أمة كذبت رسولها وهم قوم نوح فإنهم لم يسبق قبلهم هلاك أمة كذبت رسولَها، فهذا من التخصيص بدليل العقل لأن قوله { قَبْلَهُم } يرشد بالتأمل إلى عدم شموله أول أمة أرسل إليها. وقيل يجوز أن يكون ضمير { أَلم يَروا } عائداً إلى ما عاد إليه ضميرواضْرِب لهُمْ مَثَلاً } يس 13 ويكون المثَل قد انتهى بجملةياحَسْرَةً على العِبَادِ } يس 30 الآية. وهذا بعيد لأنه كان يقتضي أن تعطف الجملة على جملة { واضْرِب لهم مَثَلاً } كما عطفت جملةوءَايَةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها } يس 33 الآية، وجملةوءاية لهم اللَّيْل نسلَخُ منه النهار } يس 37، وجملةوءايةٌ لهم أنَّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } يس 41، ولا مُلجىء إلى هذا الاعتبار في المعاد، وقد علمت توجيه الاعتبار الأول لتصحيح العموم. والاستفهام يجوز أن يكون إنكارياً نزلت غفلتهم عن إهلاك القرون منزلة عدم العلم فأنكر عليهم عدم العلم بذلك وهو أمر معلوم مشهور، ويجوز كون الاستفهام تقريرياً بُني التقرير على نفي العلم بإهلاك القرآن استقصاء لمعذرتهم حتى لا يسعهم إلا الإِقرار بأنهم عالمون فيكون إقرارهم أشد لزوماً لهم لأنهم استفهموا على النفي فكان يسعهم أن ينفوا ذلك. والرؤية على التقديرين علمية وليست بصرية لأن إهلاك القرون لم يكن مشهوداً لأمة جاءت بعد الأمة التي أهلكت قبلها. وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود { كم } لأن { كم } لها صدر الكلام سواء كانت استفهاماً أم خبراً، فإن { كم } الخبرية منقولة من الاستفهامية وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده. و { كم } في موضع نصب بــــ { أَهْلَكْنَا } ومفادها كثرة مبهمة فسّرت بقوله { مِنَ القُرُونِ } ووقعت { كم } في موضع المفعول لقوله { أَهْلَكنا }. و { قَبْلَهُم } ظرف لــــ { أهْلَكْنَا } ومعنى { قَبْلَهُم } قبل وجودهم. وقوله { أنَّهُم إليهم لا يَرْجِعون } بدل اشتمال من جملة { أهلكنا } لأن الإِهلاك يشتمل على عدم الرجوع أبدل المصدر المنسبك من «أنَّ» وما بعدها من معنى جملة { كم أهلكنا قبلهم من القرون } لأن معنى تلك الجملة كثرة الإِهلاك أو كثرة المهلكين. وفعل الرؤية عامل في { أنَّهم إليهِم لا يَرْجِعُونَ } بالتبعية لتسلط معنى الفعل على جملة { كَمْ أهْلَكْنَا } لأن التعليق يبطل العمل في اللفظ لا في المحل. وفائدة هذا البدل تقرير تصوير الإِهلاك لزيادة التخويف، ولاستحضار تلك الصورة في الإِهلاك أي إهلاكاً لا طماعية معه لرجوع إلى الدنيا، فإن ما يشتمل عليه الإِهلاك من عدم الرجوع إلى الأهل والأحباب مما يزيد الحسرة اتضاحاً. و { إلَيْهِم } متعلق بــــ { يَرجِعون } وتقديمه على متعلقه للرعاية على الفاصلة. وضمير { إليهم } عائد إلىالعِبَادِ } يس 30، وضمير { أنَّهُمْ } عائد إلى { القُرُونِ }.