الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } * { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }

رجوع إلى قصة أصحاب القرية بعد أن انقطع الحديث عنهم بذكر الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ناصحاً لهم وكان هذا الرجوع بمناسبة أن القوم قومُ ذلك الرجل. فجملة { وما أنزلنا على قومه } الخ عطف على جملةقيل ادخُل الجَنَّة } يس 26 فهي مستأنفة أيضاً استئنافاً بيانياً لأن السامع يتشوف إلى معرفة ما كان من هذا الرجل ومِن أمر قومه الذين نصحهم فلم ينتصحوا فلما بيّن للسامع ما كان من أمره عطف عليه بيان ما كان من أمر القوم بعدَه. وافتتاح قصة عقابهم في الدنيا بنفي صورة من صُور الانتقام تمهيد للمقصود من أنهم ما حلّ بهم إلا مثل ما حلّ بأمثالهم من عذاب الاستئصال، أي لم ننزل جنوداً من السماء مخلوقة لقتال قومه، أو لم ننزل جنوداً من الملائكة من السماء لإِهلاكهم، وما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة من مَلَك واحد أهلكتهم جميعاً. و { مِن } في قوله { مِن بَعْدِهِ } مزيدة في الظرف لتأكيد اتصال المظروف بالظرف وأصلها { مِن } الابتدائية، وإضافة { بعد } إلى ضمير الرجل على تقدير مضاف شائع الحذف، أي بعدَ موته كقوله تعالىإذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي } البقرة 133. و { مِن } في قوله { مِن جُندٍ } مؤكدة لعموم { جُنْدٍ } في سياق النفي، و { مِن } في قوله { مِنَ السَّمَاءِ } ابتدائية وفي الإِتيان بحرف { مِن } ثلاثَ مرات مع اختلاف المعنى مُحسّن الجناس. وفي هذا تعريض بالمشركين من أهل مكة إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلمأو تأتَي بالله والملائكة قبيلاً } الإسراء 92 أي تأتي بالله الذي تدّعي أنه أرسلك ومعه جنده من الملائكة ليثأر لك. فجملة { وما كُنَّا مُنزِلينَ } معترضة بين نوعي العقاب المنفي والمثبَت، لقصد الرد على المشركين بأن سنة الله تعالى لم تجر بإنزال الجنود على المكذبين وشأن العاصين أَدْوَنُ من هذا الاهتمام. والصيحة المرة من الصياح، بوزن فعلَة، فوصفها بواحدة تأكيد لمعنى الوحدة لئلا يتوهم أن المراد الجنس المفرد من بين الأجناس، و { صَيْحَةً } منصوب على أنه خبر { كَانَتْ } بعد الاستثناء المفرّغ، ولحاق تاء التأنيث بالفعل مع نصب { صَيْحَةً } مشير إلى أن المستثنى منه المحذوف العقوبة أو الصيحة التي دلت عليها { صيحة واحِدةً، } أي لم تكن العقوبة أو الصيحة إلا صيحةً من صفتها أنها واحدة إلى آخره. وقرأ أبو جعفر برفع { صَيْحَةٌ } على أن «كان» تامة، أي ما وقعت إلا صيحة واحدة. ومجيء «إذا» الفجائية في الجملة المفرعة على { إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحدة } لإِفادة سرعة الخمود إليهم بتلك الصيحة. وهذه الصيحة صاعقة كما قال تعالى حكاية عن ثمودفأخذتهم الصيحة } الحجر 73. والخمود انطفاء النار، استعير للموت بعد الحياة المليئة بالقوة والطغيان، ليتضمن الكلام تشبيه حال حياتهم بشبوب النار وحال موتهم بخمود النار فحصل لذلك استعارتان إحداهما صريحة مصرحة، وأخرى ضمنية مكنية ورمزها الأُولى، وهما الاستعارتان اللتان تضمنهما قول لبيد

السابقالتالي
2