الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ ٱلظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً }

لم يزل الكلام موجهاً لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. ولما جرى ذكر المشركين وتعنتهم وحسبان أنهم مقتوا المسلمين عاد إلى الاحتجاج عليهم في بطلان إلهية آلهتهم بحجة أنها لا يوجد في الأرض شيء يدَّعي أنها خلقته، ولا في السماوات شيء لها فيه شرك مع الله فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحاجهم ويوجه الخطاب إليهم بانتفاء صفة الإِلهية عن أصنامهم، وذلك بعد أن نفى استحقاقها لعبادتهم بأنها لا ترزقهم كما في أول السورة، وبعد أن أثبت الله التصرف في مظاهر الأحداث الجوية والأرضية واختلاف أحوالها من قولهواللَّه الذي أرسل الرياح } فاطر 9، وذكرهم بخلقهم وخلق أصلهم وقال عقب ذلكذلكم اللَّه ربكم له الملك } فاطر 13 الآية عاد إلى بطلان إلهية الأصنام. وبنيت الحجة على مقدمة مُشاهدة انتفاء خصائص الإِلهية عن الأصنام، وهي خصوصية خلق الموجودات وانتفاء الحجة النقلية بطريقة الاستفهام التقريري في قوله { أرأيتم شركاءكم } يعني إن كنتم رأيتموهم فلا سبيل لكم إلا الإِقرار بأنهم لم يخلقوا شيئاً. والمستفهم عن رؤيته في مثل هذا التركيب في الاستعمال هو أحوال المرئي وإناطة البصر بها، أي أن أمر المستفهم عنه واضح بادٍ لكل من يراهُ كقولهأرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم } الماعون 1، 2 وقولهأرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته } الإسراء 62 الخ.. والأكثر أن يكون ذلك توطئة لكلام يأتي بعده يكون هو كالدليل عليه أو الإِيضاح له أو نحو ذلك، فيؤول معناه بما يتصل به من كلام بعده، ففي قوله هنا { أرأيتم شركاءكم } تمهيد لأن يطلب منهم الإِخبار عن شيء خلقه شركاؤهم فصار المراد من { أرأيتم شركاءكم } انظروا ما تخبرونني به من أحوال خلقهم شيئاً من الأرض، فحصل في قوله { أرأيتم شركاءكم } إجمال فصّله قوله { أروني ماذا خلقوا من الأرض } فتكون جملة { أروني ماذا خلقوا } بدلاً من جملة { أرأيتم شركاءكم } بدل اشتمال أو بدل مفصل من مجمل. والمراد بالشركاء من زعموهم شركاء الله في الإِلهية فلذلك أضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين، أي الشركاء عندكم، لظهور أن ليس المراد أن الأصنام شركاء مع المخاطبين بشيء فتمحضت الإِضافة لمعنى مُدَّعَيْكُم شركاء لله. والموصول والصلة في قوله { الذين تدعون من دون الله } للتنبيه على الخطإ في تلك الدعوة كقول عبدة بن الطبيب
إن الذين ترونهم إخوانكم يشفي غليل صدورهم أن تُصرْعَوا   
وقرينة التخطئة تعقيبه بقوله { أروني ماذا خلقوا من الأرض } ، فإنه أمر للتعجيز إذ لا يستطيعون أن يُرُوه شيئاً خلقته الأصنام، فيكون الأمر التعجيزي في قوة نفي أن خلقوا شيئاً مّا، كما كان الخبر في بيْت عبدة الوارد بعد الصلة قرينة على كون الصلة للتنبيه على خطأ المخاطبين.

السابقالتالي
2 3