الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلاَْنْعَـٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُ }. موقعه كموقع قولهومن الجبال جدد } فاطر 27، ولا يلزم أن يكون مسوغ الابتداء بالنكرة غير مفيد معنى آخر فإن تقديم الخبر هنا سوغ الابتداء بالنكرة. واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأسود والأصفر والأحمر حسب الاصطلاح الجغرافي. وللعرب في كلامهم تقسيم آخر لألوان أصناف البشر، وقد تقدم عند قولهواختلاف ألسنتكم وألوانكم } في سورة الروم 22. و { من } تبعيضية. والمعنى أن المختلف ألوانه بعض من الناس، ومجموع المختلفات كله هو الناس كلهم وكذلك الدواب والأنعام، وهو نظم دقيق دعا إليه الإِيجاز. وجيء في جملةومن الجبال جدد } فاطر 27 و { من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه } بالاسمية دون الفعلية كما في الجملة السابقة لأن اختلاف ألوان الجبال والحيوان الدال على اختلاف أحوال الإِيجاد اختلافاً دائماً لا يتغير وإنما يحصل مرة واحدة عند الخلق وعند تولد النسل. { كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }. الأظهر عندي أن { كذلك } ابتداء كلام يتنزل منزلة الإِخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل. والمعنى كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله { إنما يخشى الله من عباده } أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم، فجملة { إنما يخشى الله من عباده العلماء } مستأنفة عن جملة { كذلك }. وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتّى منهم خشية الله فدلّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون. وهذا مثل قولهإنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } فاطر 18. وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصاً للتنويه بأهل العلم والإِيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقولهإن الذين يتلون كتاب الله } فاطر 29 الآية... فقوله { كذلك } خبر لمبتدأ محذوف دل عليه المقام. والتقدير كذلك الاختلاف، أو كذلك الأمر على نحو قوله تعالى في سورة الكهف 91كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً } وهو من فصل الخطاب كما علمت هنالك ولذلك يحسن الوقف على ما قبله ويستأنف ما بعده. وأما جعل { كذلك } من توابع الكلام السابق فلا يناسب نظم القرآن لضعفه. والقصر المستفاد من { إنما } قصر إضافي، أي لا يخشاه الجهال، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية، أي عدم العلم فالمؤمنون يومئذٍ هم العلماء، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله. ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتاً كثيراً. وتقديم مفعول { يخشى } على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه. والمراد بالعلماء العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقْوَى الخشية فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصدُ شرعه، فإنْ هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقناً أنه مورَّط فيما لا تحمد عقباه، فذلك الإِيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإِقلاع أو الإِقلال.

السابقالتالي
2