الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ }

{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً }. مضى ذكر غرورين إجمالاً في قوله تعالىفلا تغرنكم الحياة الدنيا } فاطر 5،ولا يغرنكم بالله الغرور } فاطر 5 فأُخذ في تفصيل الغرور الثاني من قوله تعالىإن الشيطان لكم عدو } فاطر 6 وما استتبعه من التنبيه على أَحجار كيده وانبعاث سموم مكره والحذرِ من مَصارع متابعته وإبداء الفرق بين الواقِعين في حبائله والمعافَيْن من أدوائه، بداراً بتفصيل الأهم والأصللِ، وأبقى تفصيل الغرور الأول إلى هنا. وإذ قد كان أعظم غرور المشركين في شركهم ناشئاً عن قبول تعاليم كبرائهم وسادتهم وكان أعظم دواعي القادة إلى تضليل دهمائهم وصنائعهم، هو ما يجدونه من العزة والافتنان بحب الرئاسة فالقادة يجلبون العزة لأنفسهم والأتباعُ يعتزُّون بقوة قادتهم، لا جرم كانت إرادة العزّة مِلاك تكاتف المشركين بعضهم مع بعض، وتألبهم على مناوأة الإِسلام، فوُجّه الخطاب إليهم لكشفِ اغترارهم بطلبهم العزة في الدنيا، فكل مستمسك بحبل الشرك معرضضٍ عن التأمل في دعوة الإِسلام، لا يُمَسِّكُه بذلك إلا إرادة العزة، فلذلك نادى عليهم القرآن بأن من كان ذلك صارفَه عن الدين الحق فليعلم بأن العزة الحق في اتباع الإِسلام وأن ما هم فيه من العزةِ كالعدم. و { مَن } شرطية، وجعل جوابها { فلله العزة جميعاً } ، وليس ثبوت العزة لله بمرتب في الوجود على حصول هذا الشرط فتعين أن ما بعد فاء الجزاء هو علة الجواب أقيمت مُقامه واستُغني بها عن ذكره إيجازاً، وليحصل من استخراجه من مطاوي الكلام تقرُّره في ذهن السامع، والتقديرُ من كان يريد العذاب فليستجِبْ إلى دعوة الإِسلام ففيها العزة لأن العزة كلها لله تعالى، فأما العزة التي يتشبثون بها فهي كخيط العنكبوت لأنها واهية بالية. وهذا أسلوب متبع في المقام الذي يراد فيه تنبيه المخاطب على خطإ في زعمه كما في قول الربيع بن زياد العبسي في مقتل مالك بن زهير العبسي
من كَان مسروراً بمقتل مالك فليأتتِ نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسراً يندبْنَه بالليل قبل تبلُّج الإِسفار   
أراد أن من سَرَّه مقتل مالك فلا يتمتع بسروره ولا يحسب أنه نال مبتغاه لأنه إن أتى ساحة نسوتنا انقلب سروره غمّاً وحزناً إذ يجد دلائل أخذ الثأر من قاتِله بادية له، لأن العادة أن القتيل لا يندبه النساء إلا إذا أُخذ ثأره. هذا ما فسره المرزوقي وهو الذي تلقيتُه عن شيخنا الوزير وفي البيتين تفسير آخر. وقد يكون بالعكس وهو تثبيت المخاطب على علمه كقوله تعالىمن كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآتٍ } العنكبوت 5. وقريب من هذا الاستعمال ما يقصد به إظهار الفرق بين من اتصف بمضمون الشرط ومن اتصف بمضمون الجزاء كقول النابغة
فمن يكن قد قضى من خُلّةٍ وطراً فإنني منككِ ما قضَّيْتُ أوطاري   

السابقالتالي
2 3 4 5