الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ }

الفاء لتفريع ما بعدها على قولهبل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب } سبأ 8 الخ، لأن رؤية مخلوقات الله في السماء والأرض من شأنها أن تهديهم لو تأملوا حق التأمل. والاستفهام للتعجيب الذي يخالطه إنكار على انتفاء تأملهم فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من المخلوقات العظيمة الدالة على أن الذي قدَر على خلق تلك المخلوقات من عدم هو قادر على تجديد خلق الإِنسان بعد العدم. والرؤية بصرية بقرينة تعليق { إلى }. فمعنى الاستفهام عن انتفائها منهم انتفاء آثارها من الاستدلال بأحوال الكائنات السماوية والأرضية على إمكان البعث، فشبه وجود الرؤية بعدمها واستعير له حرف النفي. والمقصود حثهم على التأمل والتدبر ليتداركوا علمهم بما أهملوه. وهذا كقولهأولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون } الروم 8. والمراد بـــ { ما بين أيديهم } ما يستقبله كل أحد منهم من الكائنات السماوية والأرضية، وبـــ { ما خلفهم } ما هو وراء كل أحد منهم، فإنهم لو شاءوا لنظروا إليه بأن يلتفتوا إلى ما وراءهم، وذلك مثل أن ينظروا النصف الشمالي من الكرة السماوية في الليل ثم ينظروا النصف الجنوبي منها فيروا كواكب ساطعة بعضها طالع من مشرقه وبعضها هاو إلى مغربه وقمراً مختلف الأشكال باختلاف الأيام، وفي النهار بأن ينظروا إلى الشمس بازغة وآفلة، وما يقارن ذلك من إسفار وأصيل وشفق. وكذلك النظر إلى جبال الأرض وبحارها وأوديتها وما عليها من أنواع الحيوان واختلاف أصنافه. و { من } في قوله { من السماء والأرض } تبعيضية. والسماء والأرض أطلقتا على محوياتهما كما أطلقت القرية على أهلها في قولهواسأل القرية } يوسف 82. وجملة { إن نشأ نخسف بهم الأرض } اعتراض بالتهديد فمناسبة التعجيب الإِنكاري بما يذكرهم بقدرة صانع تلك المصنوعات العظيمة على عقاب الذين أشركوا معه غيره والذين ضيقوا واسع قدرته وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخطر في عقولهم ذكر الأمم التي أصابها عقاب بشيء من الكائنات الأرضية كالخسف أو السماوية كإسقاط كسف من الأجرام السماوية مثل ما أصاب قارون من الخسف وما أصاب أهل الأيْكة من سقوط الكسف. وقرأ الكسائي وحده «نخسبّهم» بإدغام الفاء في الباء، قال أبو علي وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم الفاء في الباء، وإن كانت الباء تدغم في الفاء كقولك اضرب فلاناً، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقولك اضرب مالكاً، ولا تدغم الميم في الباء كقولك اضمم بكراً، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغثة التي في الميم، وهذا رد للرواية بالقياس وهو غصْب. والكِسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة الجمهور، وهو القطعة من الشيء.

السابقالتالي
2