الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } * { وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } * { وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }

لما جاءهم التعريض بالتهديد من لازم المتاركة المدلول عليها بقولهفإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي } سبأ 50 للعلم بأن الضال يستحق العقاب أتبع حالهم حين يحلّ بهم الفزع من مشاهدة ما هدّدوا به. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له أو لكل مخاطب. وحذف جواب { لو } للتهويل. والتقدير لرأيت أمراً فظيعاً. ومفعول { ترى } يجوز أن يكون محذوفاً، أي لو تراهم، أو ترى عذابهم ويكونَ { إذ فزعوا } ظرفاً لـــ { ترى } ويجوز أن يكون { إذ } هو المفعول به وهو مجرد عن الظرفية، أي لو ترى ذلك الزمان، أي ترى ما يشتمل عليه. والفزع الخوف المفاجىء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار " إنكم لَتَكْثُرون عند الفَزَع وتَقِلُّون عند الطمع " وهذا الفزع عند البعث يشعر بأنهم كانوا غير مهيِّئين لهذا الوقت أسبابَ النجاة من هوله. والأخذ حقيقته التناول وهو هنا مجاز في الغلب والتمكن بهم كقوله تعالىفأخذهم أخذة رابية } الحاقة 10. والمعنى أُمسِكُوا وقَبض عليهم لملاقاة ما أعد لهم من العقاب. وجملة { فلا فوت } معترضة بين المتعاطفات. والفوت التفلت والخلاص من العقاب، قال رويشد الطائي
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم مما علي بذنب منكم فوت   
أي إذا أذنبتم فجاءت جماعة منكم معتذرين فذلك لا يدفع عنكم جزاءكم على ذنبكم. وفي «الكشاف» «ولو، وإذْ، والأفعال التي هي فَزِعوا، وأُخذوا، وحيل بينهم، كلها للمضيّ، والمراد بها الاستقبال لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما كان ووُجد لتحققه» ا هــــ. ويزداد عليها فعل { وقالوا }. والمكان القريب المحشر، أي أخذوا منه إلى النار، فاستغني بذكر { مِن } الابتدائية عن ذكر الغاية لأن كل مبدأ له غاية، ومعنى قرب المكان أنه قريب إلى جهنم بحيث لا يجدون مهلة لتأخير العذاب. وليس بين كلمتي { قريب } هنا والذي في قولهإنه سميع قريب } سبأ 50 ما يشبه الإِيطاء في الفواصل لاختلاف الكلمتين بالحقيقة والمجاز فصار في الجمع بينهما محسِّن الجناس التام. وعطف { وقالوا } على { وأخذوا } أي يقولون حينئذٍ آمنّا به. وضمير { به } للوعيد أو ليوم البعث أو للنبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن، إذا كان الضمير مَحكياً من كلامهم لأن جميع ما يصحّ مَعاداً للضمير مشاهد لهم وللملائكة، فأُجملوا فيما يراد الإِيمان به لأنهم ضاق عليهم الوقت فاستعجلوه بما يحسبونه مُنجياً لهم من العذاب، وإن كان الضمير من الحكاية فهو عائد إلى الحق من قولهقل إن ربي يقذف بالحق } سبأ 48 لأن الحقّ يتضمن ذلك كله. ثم استطرد الكلام بمناسبة قولهم { آمنّا به } إلى إضاعتهم وقت الإِيمان بجملة { وأنى لهم التناوش } إلى آخرها. و { أنَّى } استفهام عن المكان وهو مستعمل في الإِنكار.

السابقالتالي
2